Saturday 22nd May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 6 صفر


دروس وعبر من وفاة الإمام الرباني

ما ان انتشر خبر وفاة سماحة الشيخ ابن باز حتى خيم عل الامة قتامة حالكة، وارتسمت على وجوه الناس جميعا الحيرة والدهشة، وكأنهم لا يصدقون ان هذا البدر قد افل، ولن يشاهدوا محياه المنير الا في بحبوبة الجنة - ان شاء الله تعالى.
رحل هذا الامام العلم القدوة الرباني، فريد زمانه، ووحيد أوانه، بعد ان ترك في الوجدان لوعة، وفي النفوس حرقة، لم تنطفىء رغم ما هطل عليها من دموع العين، وما هب علهيا من زفرات القلب، رحل كأنه لم يعش بيننا مايزيد عن ثمانين سنة، اكتنفاه في مجالسه ودروسه ومحاضراته، فكان كالأب الحاني، يأسرك بلطفه وكرمه وتواضعه وبذاذته واخلاقه النادرة وعلمه الفياض، تلوح علامات الصدق والاخلاص على محياه، وتتعطر بهما كلماته، لباس التقوى في الدنيا هو دثاره وشعاره في كل احواله، كأن سنة المصطفى وهديه صلى الله عليه وسلم لم يخاطَب بها احد سواه.
رحل - رحمه الله - وكأن الناس يرفضون وداعه ويودون لو اداروا عجلة الزمن الى الخلف ليبقى بينهم ولو سنوات معدودة، يتلذذون بحديثه ومجالسته، مع ان جمهورهم اهدروا عشرات السنوات وهم على قرب منه, ومع ذلك شغلتهم دنياهم عن التمتع بخيرات الشيخ وظلاله الوارف، وكأنه - رحمه الله - الماء الذي لا يعرف الناس قيمته الا عند فقده وما حاله معهم الا كما قال الشاعر:
سيذكرني قومي اذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
إن الذي شاهد تلك الجموع الغفيرة التي ودعته في أطهر بقاع الارض جموع تموج موج البحر، هادرة بالبكاء والابتهال الى الله، شيعه الوجهاء والاغنياء والفقراء والكبار والصغار، ومن سائر الاجناس واللغات، تحت لهيب الشمس الحارق، ووسط الزحام الخانق، تراكضت تلك الالوف خلف ذلك النعش المسجى في صورة مهيبة، تحمل رسالة سرور واغتباط لكل محبي الشيخ، وشوكة في حلوق جميع اعداء الحق، ولله در الامام احمد - رحمه الله - حين يقول: بيننا وبين اهل البدع الجنائز.
ان الصورة التي رافقت رحيل شيخنا الى الرفيق الاعلى وعاشها او شاهدها كل محبي الشيخ ارى انها تحمل دروسا وعبرا كثيرة من اهمها:
1- ان الايمان والعلم والتواضع من اهم اسباب الرفعة في الدنيا والآخرة، يقول سبحانه (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، والله بما تعملون خبير) (المجادلة 11) وفي صحيح مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال، ومازاد الله عبدا بعفو الا عزا، وما تواضع أحد لله الا رفعه).
2- ان اتفاق جمهور الامة على الثناء العاطر عليه، والشهادة له بالخير من علامات الفوز في الآخرة - باذن الله - فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه مر به جنازة فأثنى الناس عليها خيرا فقال صلى الله عليه وسلم (وجبت) فساله الصحابة عن ذلك فقال: (اثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة).
3- لعل من كمال اكرام الله له ان كتب له الدفن في اشرف بقاع الارض مع انه كان لا يسكنها الا اياما يسيرة، فقد ورد ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا فقال: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتا في بلد رسولك، فقال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: كيف هذا يا امير المؤمنين وإنما القتال في الثغور؟ قال: هكذا قلت, فحقق الله لعمر رضي الله عنه ما تمنى.
4- نرجو ان يكون هذا القبول والمحبة من عموم المسلمين له - رحمه الله - علامة حب الله له وملائكته، ففي الصحيحين عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اذا احب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) وأخرجه الترمذي وزاد (فذاك قول الله) (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) (مريم 96).
والملاحظ يرى ان سماحته - رحمه الله - حظي بقبول ومحبة من جميع فئات الناس بصورة لا تتكرر في التاريخ الى قليلا، فكأنه هبط علينا من القرون الاولى - عصر السلف الصالح - برهة من الزمن ثم عاد اليهم ليرافقهم - ان شاء الله - في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولذا يظن ان الذين صلوا عليه في هذه البلاد وفي انحاء المعمورة يعدون بعشرات الملايين، فلله درك من فارس اخذ بمجامع القلوب حيا وميتا.
5- تجلى وبشكل واضح في وفاة الشيخ - رحمه الله - ما يحظى به علماء الشرع في هذه البلاد من تقدير واحترام واجلال من ولاة الامر بخاصة ومن جمهور الناس بشكل عام، مما يفوت على متربص بهذه البلاد ودينها فرصة الاختراق لتلك البنية المتماسكة بين القادة والعلماء والعامة، فالكل اسرة واحدة، وفي بيت واحد، ويسيرون على منهج واحد، فلا نامت أعين الشامتين والمنافقين.
6- ان هذه العاطفة الجياشة التي جلل بها المسلمون مصيبتهم بوفاة الشيخ اكبر مؤشر على حاجتهم لترجمة وافية تشمل كل جوانب حياته - رحمه الله - بتفاصيلها حتى يبقى الشيخ حيا بين الاجيال اللاحقة فهو بحق مدرسة فريدة من حق كل مسلم ان يستفيد منها ويستلهم العظات والعبر وتحقيق ذلك يقع بالدرجة الاولى على خواص تلاميذ الشيخ ومحبيه, نسأل الله ان يسدد خطاهم وان يجبر مصاب الامة الاسلامية برحيل عالمها وان يكتب الخير في خلفه وما ذلك على الله بعزيز.
د, عبدالله بن عبدالمحسن التويجري
كلية اصول الدين بالرياض

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
جبل الدعوة الى رحمة الله
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved