لإنقاذ العلاقة مع أمريكا,, وإصلاح شرخ فيها إسقاط نتانياهو اختيار إسرائيلي رشيد د, وحيد عبدالمجيد |
أثارت نتائج الانتخابات الاسرائيلية خلافات في شأن مدى تاثيرها على عملية التسوية السلمية وهي خلافات قائمة على الصعيد العربي وغيره منذ ان بدأ الاعداد في مطلع العام الجاري للانتخابات التي اجريت يوم الاثنين 17 أيار (مايو) قبل اكثر من عام على موعدها الاصلي.
فهناك من ينتظر الكثير من رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك,, وهناك من لا يرى فرقا يذكر بينه وبين سلفه بنيامين نتانياهو الا في الاسلوب, بل ونجد من يعتبر زعيم حزب العمل اشد خطرا من زعيم ليكود الذي استقال فور هزيمته قبل ان يُطاح به في حركة تصحيح كانت متوقعة من داخل حزبه.
وهذه الخلافات هي من طبائع الامور ففي ظل ضعف الموقف الفلسطيني صار مفتاح التقدم او الجمود او التراجع في عملية التسوية بيد اسرائيل, ومن الطبيعي ان يختلف العرب على ما اذا كانت هناك تباينات حقيقية بين الاسرائيليين وعلى مدى هذه التباينات.
غير ان ما لا يجوز الخلاف عليه هو ان نتائج الانتخابات تصب في مصلحة اسرائيل اولا واخيرا,, فقد اختارت غالبية الناخبين الوقوف ضد رئيس الوزراء السابق اكثر مما وقفت مع رئيس الحكومة الجديد، فكان التصويت متجها بالأساس ضد نتانياهو اكثر مما عبر عن رغبة حقيقية في باراك.
ولم يكن هذا هو الطابع الذي غلب على تصويت عرب 1948 فقط,, كان هذا طابعا عاما ولكن حكمه في الوسط اليهودي - بخلاف الوسط العربي داخل اسرائيل - ميل الى انقاذ البلاد من كارثة كان نتانياهو يتجه صوبها بخطى ثابتة.
ومن هنا فقد كانت هذه الانتخابات نموذجا للاختيار الرشيد, فليس كل اختيار شعبي حر رشيدا بالضرورة, ولذلك تعرضت النظرية التي تعتبر (السوق السياسية) رشيدة مثلها مثل (السوق الاقتصادية) لانتقادات شتى بعضها نظري يرتبط بصعوبة الاتفاق على معايير الرشد او العقلانية في الاختيار السياسي والتصويت الانتخابي.
كما ان بعضها الآخر تطبيقي تجريبي يتعلق بثبوت خطأ واحيانا فساد هذا الاختيار في كثير من الانتخابات الديمقراطية.
ولذلك تراجعت هذه النظرية امام اخرى تقوم على اعتقاد في وجود تصحيح ذاتي للعمليات الانتخابية,, بمعنى ان الاختيار الذي يفتقد الى الصواب يتم تصحيحه في الانتخابات التالية أو التي تليها عندما يدرك غالبية الناخبين حدوث الخطأ.
وهذا هو ما حدث في الانتخابات التي اخرج فيها الاسرائيليون نتانياهو من سدة الحكم وقذفوا به الى خارج السياسة عموما وليس فقط بعيدا عن السلطة فكان اختيار غالبيتهم رشيدا لانه ينقذ اسرائيل من كارثة تترتب على سياسات نتانياهو وطبيعة شخصيته.
وهي كارثة بدت مؤشراتها الأولى خلال فترة حكم نتانياهو، وخصوصا في شهورها الاخيرة وقد تداخلت فيها جوانب خارجية دولية واخرى داخلية سياسية واقتصادية, غير ان اهم جوانبها تأثيرا على مستقبل اسرائيل هو الشرخ الذي بدأ يحدث في علاقاتها مع الولايات المتحدة حليفتها الاولى ونصيرتها الاساسية على مدى نحو خمسة وثلاثين عاما.
ونقول شرخاً لا اكثر آخذين في الاعتبار عمق العلاقات الاسرائيلية - الامريكية من ناحية وقوة نفوذ اللوبي المناصر لاسرائيل في اروقة واشنطن، والذي يتجاوز الجماعة اليهودية من ناحية اخرى.
ولكن في السياسة كما في الطبيعة لا يبقى الشرخ شرخا فحسب حتى اذا بدأ محدودا.
وما لم يتم اصلاحه في وقت مناسب يزداد تدريجيا ويتحول الى صدع يكبر وقد يؤدي الى الانهيار.
والأرجح ان الكثير من الناخبين الاسرائيليين كانوا يراقبون بقلق مسار علاقة بلادهم مع الادارة الامريكية في السنوات الثلاث السابقة وخصوصاً خلال الشهور الستة الاخيرة، وتحديداً منذ توقيع مذكرة التفاهم في (واي بلانتيشن) في تشرين الاول (اكتوبر) الماضي ومن بين هؤلاء الذين تابعوا وقلقوا بعض من صوتوا (لمصلحة نتانياهو في انتخابات العام 1996), وهؤلاء هم الذين اقنعهم خطابه السياسي الواعد حينئذ بتخفيض مستوى تطلعات الفلسطينيين والعرب عموما في شأن التسوية السلمية,, كما جذبتهم في ذلك الوقت شخصيته التي بدت لهم قوية مسيطرة مقارنة بمنافسه سيء الحظ شمعون بيريز الذي بدا لهم مفرِّطا مستعدا لتقديم تنازلات لم يجدوها مبررة وهم في مركز قوة.
غير ان من لا تتسلط عليهم نزعة متطرفة في عدائهم للعرب او في موقفهم من اليهودية ممن انتخبوا نتانياهو اعادوا النظر في اختيارهم لاسباب (عاقلة) اهمها على الاطلاق الخطر الذي صار يهدد العلاقات الاسرائيلية - الامريكية.
وبالنسبة الى ثلاثة اجيال على الاقل من الاسرائيليين بالمعنى الواسع للجيل، تعتبر واشنطن هي قبلتهم وملاذهم, وباستثناء اسرى النزاعات القومية والدينية الاكثر تطرفا والالتزام الحزبي الذي تضعضع جزئياً كان صعبا على من اختار نتانياهو في العام 1996 ان يثبت على موقفه وهو يرى تهديدا للعلاقة مع واشنطن.
واذا اردنا ان نعرف مدى تأثير الخوف من هذا التهديد وكيف استخدمه خصوم نتانياهو لإضعاف مركزه الانتخابي ، نعود الى ما كتبه احد اهم المحررين السياسيين والعسكريين في اسرائيل، وهو زئيف شيف في جريدة (هآرتس) في عددها الصادر يوم 16 نيسان (إبريل) الماضي, فقد جادل شيف في القول الشائع ان الفلسطينيين كلهم يتمنون انتصار ايهود باراك ونبه الى ان بعضهم - وداخل السلطة الوطنية تحديدا - يعتبرون نتانياهو مفيدا لهم لأنه خلق نفورا مصحوبا بقدر من التوتر في علاقة اسرائيل مع واشنطن، مما ادى في المقابل الى تقدم ملموس لا سابقة له في العلاقة الامريكية الفلسطينية.
وكتب زئيف شين: (في محاولة الفلسطينيين التوصل الى تقارب استراتيجي مع واشنطن، يلعب نتانياهو في مصلحتهم فقد ساهم في دفع الرئيس الامريكي الى اتخاذ قرار زيارة غزة للمرة الاولى، وسهّل على البيت الابيض دعوة ياسر عرفات للقاء كلينتون شخصياً بشكل ثنائي وليس في اطار لقاء مشترك مع رئيس وزراء اسرائيل).
وهذا صحيح تماما بغض النظر عما اذا كان بعض الفلسطينيين تمنى فوز نتانياهو, فالخسارة التي الحقها نتانياهو بعلاقات اسرائيل مع واشنطن لا تتحول الى مكسب صاف للفلسطينيين في كل الاحوال.
لقد شعر قطاع من الاسرائيليين بقلق من جراء التدهور الذي سببه نتانياهو للعلاقة مع مصر ثم مع الاردن بدرجة اقل ولكن قلقهم كان اشد واعمق في شأن العلاقة مع الولايات المتحدة.
وادرك الاكثر معرفة منهم بشؤون الدنيا ان الخسارة التي لحقت بهذه العلاقة ربما تتضاعف خلال سنوات قليلة اذا استمر نتانياهو رئيسا للوزراء لفترة اخرى ليس فقط بسبب ازدياد الشرخ بالمعدلات نفسها التي ظهرت خلال الشهور الاخيرة ولكن لأن هذه المعدلات قابلة للزيادة اذا وصل الى البيت الابيض رئيس اقل التزاما تجاه السرائيل مقارنة بكلينتون.
فعندما فاز نتانياهو في الانتخابات السابقة وجد في البيت الابيض رئيسا هو من اكثر رؤساء الولايات المتحدة - ان لم يكن اكثرهم فعلا - تأييداً لاسرائيل وربما لم يحدث من قبل ان لجأت دول كبرى مثل الصين ، ودول كانت كبرى مثل روسيا في شكل مباشر الى اسرائيل لتطرح نيابة عنهم موضوعات امام رئيس امريكي مثل كلينتون,, وكان اسحق رابين يستمتع بذلك، وربما نتانياهو نفسه ايضا خلال الفترة الأولى لتوليه رئاسة الحكومة قبل ان تفتر ثم تتدهور علاقته مع الرئيس الامريكي الى الحد الذي صار معه رئيس وزراء اسرائيل شخصياً يحتاج الى من يتوسط له لدى كلينتون,, او لم يكن نتانياهو في امس الاحتياج الى اية إيماءة ايجابية تجاهه من واشنطن التي رفضت ان يدعوه لزيارتها خلال الحملة الانتخابية فيما استقبلت منافسه المنشق عليه زعيم حزب المركز اسحق موردخاي استقبالا طيبا للغاية؟!,, ألم يلتفت كثير من الاسرائيليين الى المغزى الكامن في توجه نتانياهو الى موسكو في الوقت الذي كان فيه ياسر عرفات في واشنطن؟!,, الامر الذي بدا ظاهرياً كما لو كان هناك تبادل تاريخي للموقعين الاسرائيلي والفلسطيني, فكان المعتاد هو ان يذهب عرفات الى موسكو، بينما يتجه رئيس وزراء اسرائيل الى واشنطن, واذا كان من الخطأ التهويل والمبالغة في مغزى تبادل عرفات ونتانياهو موقعيها فلا يصح كذلك التهوين من شأن الضرر الذي الحقه نتانياهو بالعلاقة - الأمريكية - الاسرائيلية وادركه قطاع من الناخبين الإسرائيليين فقرروا اصلاحه في صناديق الانتخابات عبر التصويت ضد نتانياهو بالاساس.
فقد تكررت الانتقادات الامريكية الرسمية للسياسة الاسرائيلية في الشهور الاخيرة اما بسبب عدم مواصلة تنفيذ (واي بلانتيشن) او من جراء الاستيطان المتزايد والذي وُصف صراحة بأنه مدمر جدأ لمساعي السلام واكدت مصادر اعلامية اسرائيلية ان كلينتون رفض اكثر من مرة استقبال مكالمات هاتفية من نتانياهو.
ولكن الأهم من ذلك هو مابدا من مؤشرات على تغير في الموقف الامريكي في قضايا مهمة بالنسبة الى اسرائيل فقد رفضت واشنطن اخيرا تمويل مرحلة جديدة من تجارب الصاروخ الجديد (السهم) او (حيتس) بالعبرية كما اعترضت على طلب اسرائيل اجراء مفاوضات في شأن اشراك تركيا في عملية انتاج هذا الصاروخ ضمن اطار التعاون العسكري بين تل ابيب وانقرة.
وعندما يحدث هذا كله ثم يأتي بعض انصار نتانياهو ويطالبون بالتصويت له(ردا على كلينتون الذي يدعم الفلسطينيين) لابد ان يزداد قلق من يدركون خطر هذا التوجه بين الناخبين, وكثيرة هي كتابات مؤيدي نتانياهو المتطرفين الذين دعوا خلال الحملة الانتخابية الى الوقوف مع نتانياهو (ضد الضغوط الامريكية) بل وضد كلينتون الذي قال عنه أهارون بابو في جريدة (معاريف) يوم 29 نيسان/ابريل الماضي انه (يحاول ان يلعب دور الرب لهذا العالم على حساب امن اسرائيل).
ومن الطبيعي ان صارت هذه الدعوة الى دعم نتانياهو (ضد الضغوط الامريكية) مرادفة لتدمير العلاقة مع واشنطن حسب ما فهمه منها قطاع لا بأس به من الناخبين الاسرائيليين, وهؤلاء هم الذين ساهموا مساهمة فاعلة في اسقاط نتانياهو انقاذا للعلاقة التي يتوقف عليها الكثير في شأن مستقبل اسرائيل.
|
|
|