لم تشرف منزلتي القاضي والطبيب في المجتمع إلا لأن مهنتيهما ذات صلة مباشرة بالانسان نفسه، فالقاضي يحكم في عرض الانسان وماله، وهما أغلى شيء عنده، والطبيب يحكم في جسمه وهو أعز ما يملك!
والحكمة، والحكيم، ألقاب قديمة للطب والطبيب، ذلك لان الطب يستند إلى الايمان القوي بالله باعتبار ان الشافي هو الله، وأن الطبيب سبب مبارك من أسباب الله، قد يجعل فيه الشفاء، وقد يصرف ذلك عنه! ولقد جاء في المرويات القديمة: أن المسيح عليه السلام، سأل الرب عز وجل: ممن الداء؟ فقال: مني! ثم سأله: وممن الدواء؟ فقال مني! ثم سأله متعجبا: فمن الطبيب إذن؟! فأجابه الرب سبحانه: رجل أُرسل الدواء على يديه!
والطبيب بعد الايمان بحاجة إلى الصدق والاخلاص وتجريد العمل والنزاهة والفراسة ودقة الملاحظة والصبر.
والطبيب بعد ذلك كله بحاجة الى العلم الطبي العميق الذي ورثته القرون كلها حتى تاريخ اليوم الذي يدرس فيه الحالة المرضية التي بين يديه.
والطبيب بحاجة الى ان يكون على درجة كبيرة من العقل والذكاء والحلم والادراك العميق لابعاد وأسرار النفس البشرية!
والطبيب عليه ان يكون على درجة من الاناة والهدوء والتحقق قبل ان يقول كلمته، وقبل ان يُصدر قراره، وقبل ان يكتب وصفته!
والطبيب بحاجة الى ان يكون شخصية انسانية عطوفة على وعي عميق ودقيق بالمشاعر والمخاوف النفسية مما يجعله يحسن التعامل مع النفس البشرية التي أدرك طبيعتها وفهم أسرارها!
لقد تقدمت البشرية في علوم الطب، وفي صناعة ادواته، وتركيب عقاره، لكننا على مستوى الطبيب اخذنا في السنين المتأخرة نشهد افواجا من الاطباء ليسوا على مستوى هذا التقدم، ربما لأن التعليم الطبي في العالم قد تضرر بتوسعه وكثرة المقبلين عليه، وحاجة الناس الذين ازدادت اعدادهم إلى الاطباء، فأخذ الكم يسيطر على الكيف!
إن الطبيب الماهر الحاذق الموفق الذي جعل الله الشفاء في بلسمه وأرسل الدواء على يديه، موجود، ولكنه وجود قليل ونادر للاسف! لقد أساء كثير من اشباه الاطباء إلى المستشفيات التي يعملون بها، فجهلهم وسوء تعليمهم، وقلة خبرتهم، وتدني اخلاصهم، يُعزى دائما إلى المستشفى الذي يعملون به، ولو صدق الطبيب، وصدقنا باختياره لتحسنت سمعة المستشفى!
لقد كان الطب مهنة يتقرب بها الانسان إلى الله وكان رسول الله عيسى عليه السلام طبيبا روحيا وجسميا كتب الله الشفاء بعلاجه، وحقق على يديه وبإذنه سبحانه معجزات في الابراء من امراض وعلل ميؤوس من شفائها, وظل الطب المهنة التي يتجلى فيها الايمان بالله، والصدق معه، واليقين بمساعدته, لأن الشفاء لا يتحقق إلا بإذنه، ولا يجري إلا بمدده سبحانه، وفسد الطب حين دخلته التجارة ليكون مهنة ربحية استثمارية يحسب فيها الطبيب ميزانيته بعد منتصف الليل ليعرف دخله من خرجه، فأصبح الطبيب تاجراً يفتح دكانه ويستقبل الزبون المستهلك وهمه منحصر في المبلغ المالي الذي سيأخذه منه!
إن المريض حينما يدخل على الطبيب تجده أضعف خلق الله، وأكثرهم شكا ووسواسا وترقبا، وإذا كان الطبيب تاجراً لايخاف الله فإنه سيستغل حالته، خاصة إذا أمن الرقيب وغاب عنه المحاسب!
ويتساءل البعض عن سبب اقبال الناس على العلاج الشعبي والادوية الشعبية وعودتهم إلى الماضي الشعبي في العلاج، وينسى هؤلاء المتسائلون، ان من اسباب ذلك تدني المستوى العلمي والعملي للاطباء الذين دخلوا مهنة الطب وهم ليسوا على درجة الكفاءة المطلوبة، فأفسدوا اكثر مما اصلحوا وأساؤوا أكثر مما أحسنوا، وجعلوا الناس حيرى يظنون العيب في الطب العصري، بينما هو في الشخص المدعي، وليس في العلم العظيم المدعى عليه!
عبدالكريم بن صالح الطويان