Thursday 17th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 3 ربيع الاول


لوركا,, الأندلسي الحزين
زهرة متأخرة من زهور الرومانتيكية

ألهم فيديريكو غارسيا لوركا دراسات وترجمات أكثر مما فعل سلفه سرفانتس ويصعب أن نجد تفسيراً لهذه الشعبية الاستثنائية اذا توقفنا عند حدود أعماله فقط التي أشار دارسوها الى ان عدداً منها نقل بطريقة غير دقيقة.
وقد كشفت أنضج قصائد هذا الشاعر الأسباني عن قدرة الالهام الذي استوحاه من الاندلس والتراث الشعبي, وقصائده الغنائية التقليدية التي يتعين دراسة أصدائها في الطفولة، ألهمت أشعاره لكنها اصابت بالشلل افضل الترجمات, ويعتمد معظم عمله المنجز للمسرح على الطاقة الحبيسة لمشاعر محشورة في تلك الفضاءات المحدودة الكابحة التي تميزت بها حياة القرية الأندلسية, وكانت مسرحياته التجريبية ذات النزعة التي تتجه الى الخلاص صعبة التمثيل الا من جانب ممثلين بارعين, ولم يحقق اي عمل من أعمال لوركا النجاح خارج البلاد الأسبانية خلال فترة حياته, غير ان تحولاً دراماتيكياً حدث في سيرته فقد اطلق عليه الفاشست النار وأردوه قتيلاً في ضواحي غرناطة بعد شهر واحد من اندلاع الحرب الأهلية الأسبانية عندما كان في ذروة نشاطه الابداعي، وهو وفي عمر الثامنة والثلاثين فجعل ذلك منه شخصية ساحرة لا يمكن مقاومتها.
وقد أصدرت ليسلي ستينتون مؤخراً كتاباً يتناول سيرة حياة الشاعر الأندلسي تحت عنوان (لوركا: حلم حياة) وكانت حياة لوركا موضوع كتاب صدر قبل عقد من الزمان ألفه ايان جبسون، واعتبره النقاد في حينه من افضل ما كتب عن لوركا.
ومن الواضح ان هذا الشاعر والكاتب المسرحي وعازف البيانو الموهوب، والرسام، وراوية القصص البارع، والمنشد الجذاب للشعر، والمخرج المسرحي، والنجم المتألق في مقاهي مدريد، من الواضح انه يقدم حالة كلاسيكية لابداع الحياة الذي هددته الحياة نفسها بالكسوف.
والحق ان هذا الفتى الذهبي شكل نوعاً من تهديد للحياة اليومية الأسبانية فهو ليس شخصاً لا يمكن نسيانه فقط، وأنما شخصية محبوبة بالنسبة لعدد كبير من الناس, ويتجسد امتيازه الآخر في ذلك النوع الفني غير الراسخ في الأدب الأسباني الحديث: الدراما, فلم يرق مسرحي اسباني في النصف الأول من القرن العشرين الى منزلة لوركا الذي قدم عدداً من المسرحيات المميزة وبينها (عرس الدم، يرما، وبيت برناردا ألبا).
ويكمن سر لوركا في انه أتقن نواحي الحداثة القشتالية التي لم تتجسد على نحو كامل في أعمال أقرانه من الشعراء فقد جعل من لغة الحداثة لغته الخاصة على نحو متفرد ومتألق وعلى الرغم من تجربته الحميمة في الطليعية لم يقطع اواصره التخيلية مع الغناء والشعر والموسيقى الأسبانية التقليدية.
كان لوركا مهووساً بالموت الى حد هذيان الحمى كما قال بابلو نيرودا وكان صريحاً بشأن عجزه عن مواجهة ذلك اذ كان ينشج تحت البيانو عندما قصف بيته بالقنابل وقد توسل الى قتلته ان يبقوا على حياته.
سمي لوركا شاعر الشعب - كما سميت ديانا أميرة الشعب لكنه لم يكن مؤهلاً لذلك الدور الا بحدود ضيقة, فقد كان برجوازياً وطفلاً مدللاً وكان القرويون الذين لعب معهم يخيفونه عندما يكبرون فيرى أياديهم الحجرية الضخمة القذرة بسبب العمل وقد تحدث عن مسؤولية الشاعر في فتح مزاجه للشعب لكنه احب المال والشهرة والحياة المترفة وربطات العنق والبيجامات واعترف بأن نماذج تجسيداته للعمال كانوا خدام أسرته.
وحقق لوركا في موته الدور الذي منحه له بعض الصحفيين الأسبان في حياته: سفير اسبانيا الثقافي وقد استحق هذا اللقب ذلك انه اذا ما وجد أدب اسباني خالص فان لوركا هو الذي كتبه وبشكل رائع, وفي بعض الأحيان كان يمنح لنفسه دوراً كوزموبوليتياً كشاعر في نيويورك وكانت معرفته بالكتابة الأسبانية - رغم مواجهته صعوبات في اجتياز الامتحانات فيها - واسعة وعميقة وكان تعاطفه مع الشعر الشعبي الذي يشكل ذخيرة القوة الخاصة في الأدب الاسباني تعاطفاً كلياً.
كان لوركا يعتقد انه واقعي لكن عمله كان في الواقع زهرة متأخرة من زهور الرومانتيكية ان كتاباته تؤكد في عقول القراء الأجانب صورة اسبانيا التي رفضها رومانتيكيو القرن الماضي: ارض يسكنها الغجر ذوو البشرة الداكنة، والقرويون الموسيقيون والمغاربة، ترافقهم اوتار الغيتارات وهي تنشج مثل المطر، وتترنم مثل العاصفة ان لوركا اسبانيا حية بالعواطف الحارة وكئيبة بالدم الذي يصبغ الصباح وشرشف العرس.
قال رايز ألونسو الفاشستي الذي اقتاد لوركا يوم 18 اغسطس/ آب 1936 الى موقع الاعدام: لقد أحدث بقلمه دماراً يفوق ذلك الدمار الذي أحدثه غيره بالسلاح .
وبعد اغتيال لوركا بعام واحد كتب بابلو نيرودا يقول: لو أن أحداً اراد ان يجد له رمزاً ولم يستطع ان يجده في اي شخص او اي شيء لوجده في هذا الرجل الذي اختير لأن يكون روح اسبانيا وحيويتها وعمقها .
كان لوركا يشعر احياناً بالحاجة الى طمأنة مستمعيه بالقول: على العكس مما يعتقد الناس,, لست شاعراً سعيداً بل شاعر حزين .
رضا الظاهر

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved