Thursday 17th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 3 ربيع الاول


الإبداع والتعرف على الذات
د, نذير العظمة

ان المعاناة الانسانية هي البوصلة التي تحرك الابداع صوب المخزون في الموروثين الانساني والقومي، فيصبح التاريخ مادة للقصيدة الشعرية التي يقف الشاعر فيها كصاحب رؤيا لا كمؤرخ، ولا يهم المتلقي من احمد شوقي او من خليل مطران في الشعر او من احمد باكثير في المسرح ان ينقل الواقع التاريخي كما كان بقدر ما يهمه الناظم الفكري والفني والعاطفي الذي يتخلل المادة التاريخية، ويجعل منها قصيدة شعرية تحرض الفكر والنفس على التفكير والمساءلة وطرح قضايا الانسان في الحاضر من خلال التاريخ ووقائعه المنقوشة في الذاكرة.
وحين يتعاطف احمد شوقي مع تاريخ مصر القديم بعامل الانتماء المشترك، بصورة شعرية زاهية ينطلق من وعي فكري ومعرفي في وعيه الابداعي دون ان يتخلى عن عقيدة التوحيد.
وهكذا لم تصادر عقيدة احمد شوقي الاسلامية الرؤية الحقيقية للتاريخ بل نظمتهما في اطار واحد من تطور الفكر الانساني ورؤياه الدينية فانتقلت من التعدد الى الوحدة في الحضارات الانسانية وعقائدها.
وبناء على هذا لم تصادر عقيدة شوقي المعرفة واقترن عنده الوعي الايديولوجي بالوعي المعرفي في ضوء معاناته الابداعية.
قد يكون التعامل مع التاريخ - مادة للعقيدة - منطلقاً من التاريخ العام الذي لا ينتمي اليه الشاعر في الاطار القومي كما في قصائد خليل مطران مقتل بزرجمهر ونيرون وفتاة الجيل الأسود مدفوعاً بحوافز ومعاناة الوطن, فإن الوعي المعرفي يمد الوعي الابداعي بوقود الاساسي فيرتقي المبدع من الصعيد القومي الى الصعيد الانساني في الرؤيا الشعرية ويبقى الابداع هو المحرك الاساسي في الحالين كلتيهما عند شوقي ومطران.
وكما يتعامل المبدع مع التاريخ مادة لشعره او فنه كذلك يتخذ من الأسطورة عجينة لخبزه الشعري.
قد يكون تعامل احمد شوقي مع التاريخ والأسطورة المصرية بالوصف في القصيدة الشعرية نوعاً من الاعتزاز بالجذور الحضارية، وقد يكون تعامل الحكيم معها في روايته ومسرحه نوعاً من العودة اليها والبحث عن الينابيع المكونة للذات المصرية.
غير انه كيف يمكن ان نفهم تعامل علي احمد باكثير مع التاريخ المصري والأسطورة المصرية في مسرحية اخناتون ونفرتيتي ومسرحية اوزوريس وهو الكاتب الاسلامي الذي اعطانا عدداً وفيراً من الدرامات التاريخية عن عمر الفاروق وابي عبيدة بن الجراح من رموزنا الأولى كما اعطى ملحمة وإسلاماه التي تحولت الى فلم سينمائي.
إن علي احمد باكثير في تعامله مع التراث الاسلامي والتراث المصري القديم كليهما يعبر عن توق للعودة الى الجذور ويسعى للتعرف على الذات الحاضرة من خلال التعرف على الذات الغابرة واعادة صياغتها في سياق المغامرة الحديثة والتوجه الى المعاصرة.
ومعاناته هذه في البحث عن الذات تتضمنها اعماله في كلتا الحالين كما تتضمنها طريقته في التعامل مع التاريخ وتعامله مع الأسطورة ورغبته في قيام الانسان العربي من تراب الذاكرة والموت.
وبهذا المعنى تراث المنطقة العربية القديم الذي صيغ بلغات تختلف عن لغتنا العربية - وان جمعتها معا ارومة لغوية واحدة - وأواصر نسب حضاري واحدة هو تراثنا جميعاً وان اختلفت درجة انتمائنا اليه او عينا به من قطر الى قطر.
وبهذا المعنى ما تركته لنا الأقوام القديمة التي شارك الانتماء الى هذه الارض العربية هو ارث حضاري اخر لنا يشكل بعداً تاريخياً وزمنياً لتراثنا العربي وبهذا المعنى كل ما انتجته الارض العربية هو حضارياً عربي وان اختلف عن لهجة قريش التي اصبحت لغتنا الفصحى من اليمن الى مصر القديمة وشمال افريقيا وبلاد الرافدين وسوريا والجزيرة العربية.
يمكن ان نميز حالات مختلفة لتعامل الشاعر العربي الحديث مع الاسطورة، فهو في تصديه للأسطورة شعريا يتعامل مع ذات غير ذاته, لها كيان موضوعي خارج وجدانه، وان كان هذا الوجدان الشعري يحاول ان يتلقفها، ويحولها الى صيغة من صيغه الغنائية التي ألفتها قصيدته العربية.
فالمازني في قصيدة الراعي يتشبث بالحالة الغنائية ويحول القصصي الى غنائي في تعامله مع اسطورة اورفيوس' عبر ترجمته لقصيدة جيمس رسل وهو من شعراء امريكا في اواخر القرن الماضي ومطالع الحاضر.
وخليل مطران يتعامل مع ايزيس وكأنها واحدة من عرائس شعر الغزل ليلى او لبنى ويلتفت الى محاسنها وجمالها الخارق ودلالاتها ومغزاها الأسطوري ويحول ايزيس عن سياقها الاسطوري والقصصي الى كتابة بلاغية ويجعلها مادة لغرض من اغراض القصيدة الغنائية المألوفة للقريحة العربية فيتغزل بها فالحبيبة هي صورة اخرى عن ايزيس البهاء والانوثة ومطران يقطعها هكذا عن جدلها الاسطوري الثنائي الذي تعيد فيه الانوثة للذكورة الخصب, وتعود دورة الحياة في الطبيعة والحيوان والانسان ويستقيم العدل بعد ان سيطر الظلام والجور من جراء قتل ست لأزورويس وهكذا فإن خليل مطران يكتفي من ايزيس بجمالها ويحولها الى واحدة من عرائس شعر الغزل.
وهكذا نرى ان عملية الابداع تعرفا على الذات تتميز بثلاثة انواع من الوعي أولها الوعي المعرفي الذي يشكل الابجدية الاساسية للحضارات فالوعي المعرفي هو الذي ينتج الحضارة في تفاعل الانسان مع الانسان وتشكيل المتحدات الاجتماعية التي تواجه الطبيعة والحياة موحدة من اجل البقاء والاجتماع هو من اسباب الثقافة وتولد المعرفة للانسان والوجود الذي حوله والكون الذي يكتنفه فالموت ينتظره في نهاية المطاف ككائن فرد يفنى جسده وتبقى روحه في المجتمع عملاً وفنا وثقافة.
والنوع الثاني من الوعي هو الوعي الايدلوجي الذي ينطلق اساساً من التراكم المعرفي ولكنه يتشبث بمنطلقات ومبادىء او منظومة منها لإنتاج الحضارة والتحكم بها واذا ظلت الاديولوجيا على صلة حية بالمعرفة تحافظ على وجودها واستمراريتها وعلى صدقيتها كما جرى لكثير من العقائد المعاصرة والقديمة اما اذا انقطعت هذه الصلة تصبح الاديولوجيا عند ذلك في موقع المصادر للمعرفة والمعرقل للنمو الانساني والحضاري.
والنوع الثالث من الوعي هو الوعي الابداعي وهو موصول ومتأثر بكلا الوعيين المعرفي والاديولوجي لكنه ينفصل عنهما بتجاوز الثابت الموروث الى نبض الحياة المتطور ابداً وتجدد الحياة والانسان.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved