* دمعة مريرة ما تنزلق على وجهي,, دمعة كنصع الصفاء,, باهرة,, بلورية، لها وهج يشرق على الهدب وجانب الشفة,, وفي طرفها يمتد خط دقيق من الجفن حتى حافة الأنف,, حيث يتجعد الثغر وجوما بنحيبه,, نحيب تصطلي به الحنجرة بدمعة بوهيمية راحت تستقر للحظات على حافة دقني ثم سرعان ما تفقد توازنها وتنسحب الى عنقي.
أجل,, أظمأ الى أحلامي الهاربة في عتمة الليل البهيم,, كي أمتطي جموحها وأحلق في فضاءات لا متناهية، أظمأ,, وأعض على شفتي حسرة، قد يشرقني الدمع ببعض البلل الذي تشتاقه أعماقي، ولعل جفاف حلقي ينتهي، آه,, لو ينتهي فتذوي آلامي,, ومع كل هذه الأمنيات الطيفية,, غالبا ما ينتفخ قلبي بخلجة تسحقه,, رعشة ألم مفاجئة تجعلني انكفئ وأمدد أصابعي على مساحة صدري المنقبض لأربت على عنفوانه قليلا,, على حدته تسكن وتهدأ.
بالقرب مني، كانت القطة الرمادية تقفز بحركات مجنونة,, تمدد جسدها السمين على بلاط الباحة، ثم تتدحرج نحو البوابة الى ان يصطدم رأسها بالحوض الذي يلملم أعواد الحبق وشجرة اللوز الباسقة,, وعلى مرمى حدقاتي تشكلت سحب في وجه الليل بدت كثيفة على غير عادتها,, لكنها هناك تتكوم كالأهوال، وفي اقصى الحديقة تدلت الكروم مظللة المكان بسقيفة خضراء كان يتعلق بين قطوف العنب فيها قفص كبير للبلابل.
القطة الآن تصل الى ركن الحوض الآخر وتحدق برأسها في تمايل الأغصان الوارفة لشجرة الليمون,, ترقبها قليلا,, ثم تتحفز لقفزة أخرى، لو كانت طفلتي هنا,, لربما هرعت وراء القطة تركلها وتضاحكها,, لربما احتضنتها ومسدت على فرائها، لكن ابنتي رحلت واختفت بعدها الضحكات، ظلت الطرقات المقاربة لبيتي صامتة,, والعيون المكتظة بالفضول,, عارية من السؤال,, عيون ترمقني بدون نظرات,, عيون واشياء حدثت فيما مضى.
دمعة أخرى تلوح على حواف أهدابي المقرحة,, تدفعها غصة تمركزت على حنجرتي، فتسرع الدمعة الصغيرة منحدرة لتلتحق بسابقتها، صور تظهر وتهب بين هشيم عبراتي، ومع انطلاق احداقي الى الناحية الأخرى,, يتراءى غمام ساطع ومتشظٍ بين عيني نتيجة لتجمع القطرات، ثم لا تتوانى في ان تهوي جميعها بسيل متلاحق من الدموع.
دائما ما يداهمني المشهد الذي رحلت خلاله وعد كهل صارم يدق بابي بعد منتصف الليل ويختطف قلبي، كانت طفلتي في الأسبوع الأول من عمرها,, وكانت قدماي لا تقدران على حملي من آلام المخاض الرهيبة,, لذا لم أستطع المقاومة,, نظرت اليه بوهن وباستمرار كان صوتي يتسلل بلا نبرات، وحتى أؤخر مساعيه حبوت موجوعة القامة التي كانت تنبض بجرحي نحو الباب,, اذكر صراخ طفلتي,, كيف كان الكهل يتطلع الى في شماته,, اذكر وجوه الجيران التي تلصصت من النوافذ والشرفات,, اذكر حتى اغمائي، ومنذ غياب وعد وحتى الآن,, مازلت أرزح تحت وطأة العذاب التي ظللتني بالأسقام.
قلبي ينتفض بالألم ثانية ولا استطيع ان أتنفس، عند هذا الحد من الوجع اجهش ببكاء قصير مع احتراق في جوانب رأسي,, ثم لا ألبث ان أتماسك متراجعة بجسدي الى الوراء,, التقط الهواء النقي ببطء,, فله طعم الحياة,, وما يصبغه من إكسير وحلاوة للبقاء.
الأشياء التي غافلتني من قبل، تتضح مرة أخرى وبجلاء,, فهي لم تبارحني أبدا - بل ما زالت مستلقية على ذاكرتي، ولكن الحنين يوعز لي بتلقف صور مغايرة لابنتي,, الكهل قد تصبح شبيهة به,, هذا ما يحوم في خيالي اللحظة,, هل تسأل عني الصغيرة!,, ربما يقال لها روايات غريبة عني,, ربما يقنعونها بموتي,, أجل,, هذا ما يكون من شأن الكهل دوما,, ولكن,, أتراها ترسم لي طيفا في قلبها,, أتراها تبادلني الحنين؟,, أندس عبر وحدتي ساهمة، وأعرف مسبقا الى أين اتجه,, بداية حكايتي التي خطوتها في الرابعة عشرة من عمري,, بيت متداعي البناء يضمني وأمي التي تطالعني بغضب,, وذلك الزائر الذي جاء الينا بعلب مزركشة,, وحلويات,, وسكاكر، زائر فظ أشيب الرأس والضمير، كان يساوم أمي على شرائي ليضمني الى بقية نسائه,, وفي ليلة دهماء امتدت لأشهر طويلة,, تزوجت الكهل حتى استطعت الصمود أمام قسوته,, كنت أتخيل اليتم اللاارادي لفتاة مثلي ثم أنظر الى بطني الذي بدأ يكبر حجمه، وفي الظلام أظل متيقظة تداهمني كلمات أمي النابية: اطيعيه فهو زوجك وملاذك الآن .
وفي مرات متتالية تصرخ في وجهي من عمق الخيال، دعيني أحيا غدي,, فبسببك حرمت نفسي من الزواج، وكانت تأتيني في النوم، تنطلق نحوي وتتدافع بثوب زفافها الأبيض حتى تصفعني بقسوة: إياكِ أن تفكري بتركه,, فلن يعولك بعده أحد .
وأحيانا تغيب عني لليال طويلة، ثم لا تلبث ان تظهر لي مع زوجها ضاحكة وسعيدة.
لكن قسوة الكهل فاقت كل توقعاتي، فعندما كنت أغط في نوم عميق ذات ليلة، جاءني مشتعلا يمارس حنقه عليّ، كان يدنو مني,, وتقترب يداه من رأسي,, فرحت أجوب الحجرة فزعة وأصرخ متملصة من يديه الباحثة عن لطمي وفي أحشائي وعد تنتفض وتتحرك بعنف مستاءة، حتى ينهال عليّ الكهل بضرب مبرح حيث تندلق دمائي ويتورم وجهي وحيث اصحو على كدماتي ورضوضي راقدة في سرير ابيض بين جدران المستشفى الكبير.
كل مرة يحدث لي ذلك، غير اني في المرة الأخيرة قاومت الكهل وتركت له القصر فارة الى منزل أبي المظلم,, فقد تداعى جلدي أمام التجبر الملعون، وعندما حانت ساعة الولادة ارسل لي من يهتم بأمري، ثم على غفلة مني همس بعد الولادة يتوعدني: أعدي العدة أيتها العنيدة، فلن تري ابنتك أبدا بعد أيام .
كنت أرمق محياه لأتيقن من حقيقة نذيره، فإذا به يقهقه على مبعدة ويقذفني بجملة حارقة :أسمعت أيتها المتوحشة الصغيرة,, لن تري ابنتك أبدا ,لهفتي ظلام آخر يظلل ما تبقى من احتمالي,, ظلام يتمدد ويتسرمد مع اشتعال الأمل من نفسي,, مع هاجس يراودني بلقاء وعد، وكلما تملكني الأمل وسطا,, أدركت ان المستحيل واقع قد يتحقق، لذلك,, ما أن نظرت الى السماء المكفهمة، حتى دوى صوت الرعد يتبعه هطول الغيث، كان ثمة غيث من نوع آخر ينسكب من عيني,, غيث الدمعات التي غسلت أوجاعي,, لذلك خلدت الى النوم -مطمئنة- بعد ساعات,, فرأيت وعد باسمة في منامي.
|