Saturday 19th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 5 ربيع الاول


التجربة الذاتية في الشعر
د, مصطفى رجب

أحيانا يطلق على التجربة الفنية التي يعبر بها الشاعر عن موضوع ما اسم التجربة الشعرية ، وأحيانا تسمى التجربة الشعورية , ولعل منشأ الاختلاف بين المصطلحين يعود الى ما تحفل به التجربة من الصدق الفني ، ونقصد به ما تنم عنه سطور العمل الفني من معايشة حقيقية والتصاق تام بين الشاعر وفكرته.
وقصيدة زهور لأمل دنقل نموذج فذ للتجربة الذاتية عندما يصوغها الشاعر في لغة شفافة تجسد مشاعره تجسيدا حيا ينبض بعنف اللحظة، ومرارة الحس، واحتدام الأحاسيس بداخله، يقول أمل في هذه القصيدة التي كتبها على سرير المرض قبيل وفاته:
وسلال من الورود
ألمحها بين إغفاءة وإفاقة
وعلى كل باقة
اسم حاملها في بطاقة
تتحدث لي الزهرات الجميلة
أن أعينها اتسعت -دهشة-
لحظة القطف
لحظة القصف
لحظة اعدامها في الخميلة
تتحدث لي
أنها سقطت من على عرشها في البساتين
ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين
أو بين أيدي المنادين
حين اشترتها اليد المتفضلة العابرة
تتحدث لي
كيف جاءت
وأحزانها,,, ترفع أعناقها الخضر
كي تتمنى لي العمر
وهي تجود بأنفاسها الآخرة!!
كل باقة
بين إغماءة وإفاقة
تتنفس -مثلي- بالكاد,, ثانية,, ثانية
وعلى صدرها حملت -راضية-
اسم قاتلها في بطاقة!!
لقد كان أمل دنقل حين كتب هذه القصيدة يرقد محاصرا بمرض السرطان على سرير يعلم أنه لن يغادره إلا الى القبر، لذلك جاء تعبيره عن الحالة النفسية للزهور التي تهدى اليه، يعكس - بصورة رائعة- أزمته هو مع الموت, فعين الزهور تتسع لحظة قطفها، وكأنه يخشى أن تسرع إليه لحظة القطاف، وتلك الزهور تدعو للشاعر بطول العمر وهي تجود بآخر أنفاسها، وهو يلمح تلك الدعوات في احتضاره هو نفسه ما بين لحظة إغماء، ولحظة إفاقة.
ان التوحد بين الشاعر وبين تجربته في هذه القصيدة - وغيرها- هو الذي يكتب الحياة لقصيدة ما، أو شاعر ما، بعكس أكثرية ما ينشر من شعر تتلاشى فيه التجربة الذاتية، ويرتفع فيه جرس الموسيقى الصاخبة، وفرقعة المحسنات اللفظية الخلابة.
وقد عبر القدماء عن هذا المعنى تعبيرا رشيقا شاع في مؤلفاتهم وهو تعبير ماء الشعر فالقصيدة المنظومة ذات الأحاسيس الميتة، يقولون عنها إنها تخلو من ماء الشعر، ولأن الماء - كما عبر القرآن- هو أساس كل شيء حي، فإن دقة التعبير القديم تثير دهشتنا، وبخاصة عندما نجد شاعرا مثل عبدالله بن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن ابي صفرة يهجو ابن عمه مروان بن سعيد، فيقول له: إن شعره لا ماء فيه:
لقد تأملت أن تأتي بقافية
تكون مني بها - أو من أخي - خلفا
إذاً لأعملت نفسي في روايتها
وحملها لك، واستودعتها الصحفا
لكن شعرك لا صفو ولا كدر
فأنت تجمع سوء الكيل والحشفا
فاجعل لشعرك ماء أنه نفدت
عنه المياه فقد أنفذته قشفا
أقمت حولا على بيت تقومه
فلم تصب وسطا منه ولا طرفا
ألا يجوز لنا أن نقول بعد هذا لشعرائنا الجدد: رويدكم معاشر المغرورين
فهذا تراثنا -مثلكم- يدين الغثاثة والرثاثة، ويدعو الى العمق الفني الذي تسمونه: الحداثة!! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تغطيات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved