Tuesday 22nd June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 8 ربيع الاول


حقوق الإنسان في التكافل الاجتماعي 2-2
بين التكافل والمساواة
د, محمد عمارة

إذا كان هذا هو التكافل الاجتماعي، المعبر عن فلسفة الاستخلاف الاسلامية في الثروات والأموال، فماذا عن موقف الاسلام من المساواة ؟.
ان المساواة هي تشابه المكانة الاجتماعية والحقوقية والمسؤوليات والفرص امام الناس في المجتمع على النحو الذي تقوم فيه الحالة المتماثلة بين هؤلاء الناس.
ولقد شاع الحديث عن المساواة في فكر الحضارة الغربية، منذ ان اعلنت مبادىء حقوق الانسان في الاعلان الذي أصدرته الثورة الفرنسية لذلك 1789م,, فدخلت المساواة منذ ذلك التاريخ في الكثير من الدساتير والمواثيق القومية والدولية,.
وفي ميادين المساواة تذكر - عادة - المساواة السياسية والمساواة الاقتصادية,, والمساواة المدنية,, والمساواة الاجتماعية ويجري الحديث عنها في علاقات المواطنين الداخلية,, وبين الأمم والدول وبين الأجناس والقوميات والشعوب,.
وبعض المذاهب والفلسفات قد نحت منحى خيالياً طوباوياً في الحديث عن تصوراتها لتطبيقات مبدأ المساواة بين الناس، فتصورت امكانية تحقيق التماثل الكامل والتسوية المادية الحسابية بين الناس في كل الميادين، وبالتحديد في الميادين الاقتصادية - شؤون المال والثروة والمعاش - وفي الميادين الاجتماعية - التي تتأثر أوضاعها ومراتبها عادة بأوضاع الاقتصاد والمعاش والأموال والثروات.
لكن هذه التصورات الطوباوية قد استعصت على الممارسة الواقعية وعلى التطبيق في اي مجتمع من المجتمعات حتى تلك التي حكم فيها انصار هذه المذاهب والفلسفات.
ولعل اقرب التصورات الى الدقة والواقعية في مذهب المساواة وامكانية وضع مبدئها في الممارسة هو التصور الذي يميز بين:
أ - المساواة بين الناس امام القانون,, على النحو الذي ينفي امتيازات المولد والوراثة واللون والعرق والجنس، والمعتقد,, فهذه المساواة ممكنة,, بل وضرورية وواجبة التحقيق والتطبيق,, وهي قد تحققت بدرجات كبيرة في عديد من المجتمعات.
(ب) المساواة في تكافؤ الفرص امام سائر المواطنين,, وسائر الأمم والقوميات,, وسائر الدول اي المساواة في تكافؤ الفرص المتاحة بمختلف الميادين,, وذلك حتى يكون التفاوت ثمرة للجهد الذاتي والطاقة المتاحة، ليس بسبب التمييز والقسر والحجب أو الامتياز,, وهذه المساواة ممكنة، وهي هدف يستحق الجهاد في سبيل تحقيقه في الاطار الاجتماعي والدولي على السواء.
(ج) اما المساواة فيما بعد الفرص المتكافئة فانها هي التي تعد خيالاً وحلماً يستعصي على التحقيق ويناقض السنن والقوانين الحاكمة لسير الاجتماع والعمران,, فبعد تكافؤ الفرص امام الجميع يكون التكافل، اي التوازن عند حدود العدل والوسطية اي تحقيق الكفاية للجميع - وليس المساواة الحسابية - مع فتح الأبواب للتفاوت، المؤسس على الحلال في الحيازة والاستثمار والانفاق دونما اسراف او اكتناز او استئثار, ففي المجتمع الذي تتكافأ فيه فرص تحصيل واكتساب وامتلاك العلم,, والمال,, والاشتغال بالشؤون العامة سياسية واجتماعية، نجد الطاقات لدى الناس متفاوتة ومن ثم تتفاوت انصبتهم وحظوظهم في الملك والكسب والمحصول بسبب تفاوت طاقاتهم المادية والذهنية والادارية,, الخ فالمساواة في الفرص المتكافئة لا تثمر مساواة في مراكز الناس المالية والاجتماعية، لتفاوت القدرات - الموروثة، والذاتية، والمكتسبة, بين هؤلاء الناس,, انها مساواة في تكافؤ الفرص وليست مساواة في الأنصبة والحظوظ من هذه الفرص.
وإذا جاز لنا ان نجسد المساواة فيما بعد تكافؤ الفرص - وهي التي يعبر عنها التكافل الاجتماعي - فان صورة الجسد الواحد هي المجسدة لهذا التكافل وهذه المساواة,, فأعضاء الجسد تتكافأ في الفرص المتاحة لها كي تستمد من القوى والطاقات، ومع ذلك فهي متفاوتة في الاحجام والطاقات والاحتياجات والمسؤوليات,, ثم هي مع ذلك وفوق ذلك متكافلة في الأخذ وفي العطاء وفي الشعور,, فبينها جميعا التكافل الجامع، ثم ان لها بعد ذلك حظوظاً من التفاوت والامتياز,, لذلك كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صور التكافل الاجتماعي الاسلامي - في الأمة - في صورة الجسد الواحد هو التجسيد لفلسفة الاسلام المتميزة في هذا الميدان: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (34) .
فاذا غاب هذا التكافل انحلت روابط الاجتماع في المجتمع وتحللت اعصاب جسد الأمة,, ولقد بلغ الاسلام في التحذير من ذلك الى الحد الذي جعله سبباً في براءة ذمة الله، سبحانه وتعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم من الجماعة البشرية التي تسقط في مستنقع هذا الخلل الفاحش في علاقات الاجتماع,, وفي ذلك وعنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ايما أهل عرصة (35) اصبح فيهم امرؤ جائع قد برئت منهم ذمة الله تعالى,, (36)
فمجتمع التكافل الاجتماعي هو مجتمع الجسد الحي,, وإسهام كل عضو من الأعضاء في حياة الجسد وحيويته ليس متماثلاً ولا متساوياً,, وحظ كل عضو ونصيبه من رصيد حياة الجسد وحيويته ليس متماثلاً,, فالتوازن والارتفاق الذي يصبح فيه كل عضو فاعلاً ومنفعلاً ومتفاعلاً مع الآخرين وكأنه المرفق الذي يرتفق به وعليه الآخرون كما يرتفق هو بهم وعليهم، مع التفاوت في الحظوظ والمقادير والدرجات في عملية الارتفاق والتوازن هذه,, ان هذه الصورة هي الممكنة والحقيقية والعادلة في مبدأ المساواة بالميادين التي تتفاوت في تحصيلها طاقات الناس وتتفاوت فيها ايضا احتياجاتهم لما يحصلون من هذه الميادين.
ان الاسلام هو دين الجماعة ولا وجود للجماعة بدون التكافل الاجتماعي لان هذا التكافل هو موجد النسيج الاجتماعي، المحقق لوجود هذه الجماعة ,, وفي اطار هذه الجماعة تتمايز حظوظ الافراد والطبقات فيما وراء حد الكفاية للجميع,, وعن هذه الصورة الجامعة للوحدة والتمايز جاءت كلمات الامام علي بن ابي طالب الى واليه على مصر الأشتر النخعي ]37ه 657م[ في عهد توليته - والتي قال فيها: واعلم ان الرعية طبقات، لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها: جنود الله,, ومنها: كتاب العامة والخاصة,, ومنها: قضاة العدل,, ومنها: عمال الانصاف والرفق ومنها: اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس,, ومنها: التجار واهل الصناعات,, ومنها: الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة,, فالجنود حصون الرعية,, وسبل الأمن,, ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج لهم من الخراج,, ثم لا قوام لهذين الصنفين الا الصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب ولا قوام لهم جميعا الا بالتجار وذوي الصناعات,, (37) .
فهي كلمات ترسم لوحة الحقيقة الاجتماعية لمذهب الاسلام الاجتماعي: التعددية القائمة علاقات اطرافها على التوازن اي التكافل الاجتماعي فلا قيام لطرف منها الا بالارتفاق مع الجميع.
* * *
فرائض,, وليست مجرد حقوق
واذا كانت الفلسفات الاجتماعية غير الاسلامية قد وضعت العدل الاجتماعي في اطار حقوق الانسان ,, فان الاسلام قد وضعه في مرتبة الفرائص والواجبات والتكاليف التي يأثم الانسان - فرداً او جماعة - اذا هو تنازل عنه حتى ولو كان هذا التنازل طواعية واختياراً,.
كذلك لم يقف الاسلام - في التكافل الاجتماعي - عند حدود الفلسفة التي تحدد المقاصد,, والغايات وانما وضع الفرائض التي تمثل الآليات فيما فرص الاسلام على المسلمين هو مما يخرج هذه الصفحات عن الحيز المطلوب,, فاننا نكتفي - في هذا المقام - بالاشارة الى بعض الفرائص الاسلامية التي يمكن لها - في الواقع الاقتصادي والاجتماعي المأساوي - العبثي الراهن - أن تخرج عالمنا من الظلمات الى النور.
ان المجتمع المسلم يجب ان يحقق التنمية الاجتماعية والتكافل الاجتماعي بالحلال الاسلامي وذلك بواسطة:
1 - صندوق التنمية بالركاز: ذلك ان معظم ثروات الأمة الاسلامية مركوزة في باطن ارضها,, والاسلام يفرض فيما يستخرج من هذا الركاز زكاة مقدارها 20%,, وتستطيع الأمة ان ترصد زكاة الركاز - اي خمس قيمة المستخرج من البترول والغاز والفوسفات والحديد والفحم والكروم والبوكسيت والمنجنيز والنحاس والرصاص والذهب والفضة,, الخ في صندوق للتنمية الاقتصادية الشاملة لأوطان الأمة,, على ان يراعى في اولويات التنمية بمختلف الاقطار البدء بتحقيق الكفاية في الضرورات فالحاجيات فالتحسينات والكماليات,.
وبصندوق التنمية هذا، تتحقق العدالة الاسلامية بين كل اقطار الأمة، وفق ما هو مستخرج من ارضها,, والعدالة في التنمية والتكافل الاجتماعي وفق سلم الضرورات فالحاجيات فالتحسينات,, وبه كذلك تتحرر الأمة من أسر الديون الخارجية، وحرام الربا الفاحش، اللذين يرهنان موارد الأمة وحريتها وارادتها لدى الدائنين!.
وبهذا المصدر للتنمية والتكافل يزدهر عمراننا الدنيوي، ونرجو ثواب الله ورضوانه يوم الدين.
2 - وصندوق الزكاة العامة: - في غير الركاز - من الزروع ورؤوس الأموال والتجارات والعقارات والحيوانات والحلي المدخرة,, الخ,, الخ,, ومقادير هذه الزكوات تتفاوت بتنوع ما هي مفروضة فيه فمنها ما هو 2,5% وما هو 5% وما هو 10%,, الخ,, الخ.
وباستطاعة خطة التنمية الاسلامية ان تقيم لهذه الزكوات مؤسسة او مؤسسات توظف اموالها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة للفئات والمصارف التي حددها القرآن الكريم: (انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) (38) .
ولخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية حرية توجيه اموال هذه الزكوات للاستثمار في الميادين التي تحقق التكافل الاجتماعي، اما لأن ذلك (في سبيل الله) او لأن وضع هذه الأموال في الانتاج المحقق لتكافل مصارف الزكاة هو افضل من اخراجها للاستهلاك.
3 - والوقف: الذي نهضت مؤسساته - في تاريخنا الحضاري - بتمويل صناعة الحضارة الاسلامية وتجديدها وباشاعة مستويات من التكافل الاجتماعي في عصور كان افتقارها الى هذا التكافل شديداً,, ان الوقف على المنافع العامة - انتاجاً واستهلاكاً - هو النموذج الصادق لملكية الجماعة والأمة بعد ان تمخضت اشتراكيات العصر عن ملكية للدولة او البيروقراطية او الحزب لأن الوقف هو اخراج المال من حيازة الفرد - المستخلف فيه - الى مالكه الحقيقي الله سبحانه وتعالى اي اخراج المال - في الواقع - الى الأمة والجماعة التي هي المستخلف الاصلي في الثروات والأموال.
ومن الممكن اعطاء الوقف ابعاداً حديثة، إن في المؤسسات والآليات او في الآفاق التي تنهض بتنميتها والانفاق عليها مؤسساته,, كما ان بالامكان ادخال نظام الأسهم والحصص في تكوين رؤوس الأموال ومصادر الدخل الموقوفة على النفع العام.
ان امة مولت صناعة حضارتها اهلياً وطوعياً بالاوقاف,, فكان عمرانها الدنيوي قربة الى الله، سبحانه وتعالى، يحفزها اليها الاعتقاد الديني لجديرة باحياء هذا الشكل من اشكال التمويل لتحقيق التكافل الاجتماعي في عالم اصبح غابة توظف فيها 97% من رؤوس الأموال في المقامرات والسمسرة و90% من عقول العلماء في خدمة صناعة السلاح والدمار,, و86% من ثمرات الانتاج العالمي لرفاهية 20% من السكان!!.
وبإحياء الوقف - أيضاً - ترجح كفة الأمة على كفة الدولة في عصر غدت فيه الدولة ديناصورا - شمولياً) يغتال الحريات والخصوصيات وخاصة عندما تسيطر على مصادر الأرزاق.
4 - وتحريم استثمار المال الاسلامي في خارج ديار الاسلام: فلا يحل - في واقع تستبعد فيه الديون امة الاسلام وتستنزف ثروات المسلمين وتهدر ارادتهم ان توظف ثروات المسلمين خارج ديار الاسلام,, ويعظم هذه الضرورة من ضرورات التكافل الاجتماعي حجم الاستثمار الاسلامي خارج بلاد المسلمين مقارناً بحجم هذا الاستثمار في البلاد الاسلامية,, ففي المدة من 1953 م حتى نهاية 1993 بلغت نسبة المستثمر من المال العربي خارج ديار الاسلام 670 بليوناً من الدولارات بينما لم يتعد المستثمر من هذا المال في البلاد العربية 12 بليونا من الدولارات اي ان مقابل كل دولار مستثمر في الداخل هناك 56 دولاراً مستثمرة في دعم الاقتصاديات اللاإسلامية بل والمعادية لنهضة المسلمين وعزة الاسلام (39) !.
* * *
بهذه المصادر والآليات والمؤسسات - وأمثالها - يحقق المجتمع الاسلامي التنمية الاجتماعية بالحلال الاسلامي وبها نقيم التكافل الاجتماعي بين ابناء المجتمع المسلم,, فنقيم الاسلام في واقعنا,, ثم نقول للعالم هذا هو النموذج الاسلامي في التكافل العادل بين بني الانسان.
وبذلك ايضا نحول طاقات التدين ومخزون الاعتقاد الديني نحو انجاز المقاصد العامة النافعة بدلا من استهلاكها واستنزافها - ونحن معها - في الاشكال والجزئيات !.
(34) رواه البخاري ومسلم.
(35) اي: مجتمع او قرية او حي.
(36) رواه الامام احمد.
(37)(نهج البلاغة) ص 337.
((38) التوبة: 60.
(39) من تقرير المؤسسة العربية لضمان الاستثمار - صحيفة (السياسة) الكويتية في 25/1/1995م.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
ملحق الخرج
مشكلة تحيرني
منوعــات
القوى العاملة
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved