Tuesday 22nd June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 8 ربيع الاول


الموظف المثالي
قصة قصيرة

ركب سيارته متوجهاً إلى المصحة النفسية ليزور زميله السابق في العمل تختلط مشاعره وتتصارع بداخله,,!
أزيارة شماتةٍ أم مواساة؟,.
وهو في طريقه يتمثل أمام عينيه منظره وهو يُنقل من بينهم في حالة هياج وصراخ,,!! وليس على لسانه سوى كلمة,, أنا صاحب العمل,, أنا المدير,, أنا كل شيء في هذه الإدارة,, من غيري أنتم لاشيء,, أنا البطل وأنتم الكومبارس,, أنا الشريان الذي يضُخ الدم من خلاله في عروق المصلحة,, بدوني تتوقف حركة المصلحة بكاملها,,! أنتم الدمى التي تتحرك بأمري,,!
هزَّ رأسه ليبعد هذه الصورة الكئيبة عن مخيلته,,! وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل ,, ليتهم لم يقيموا ذلك الحفل المشؤوم,, فهو الشرارة الأولى لفقدان عقله,.
يجتر بذاكرته يوم الحفل حينما نودي باسمه,, ووصف بالموظف المثالي وقام بخطى متقاربة,, يمشي خبباً ليستلم جائزته,, وقد تعثر قبل أن يصل المنصة! حتى كاد يسقط عليها,, سُلمت له الجائزة سحبها بقوة,, وكأنه يخشى ان يرجعوا بكلامهم ويعيدوا النظر في التكريم سقطت من بين يديه,, فهوى سريعاً ليخطفها قبل غيره,,!!
فسقط عقاله على الأرض بجوارها,, ندّت عنه ابتسامة صفراوية خجولة,, يتصبب العرق من جبينه,, رغم برودة الجو,,!! رفع عقاله وعدّله على رأسه وعاد ليرفع الجائزة,, فسقط مرة أخرى,, فزاد ارتباكه في حالة يرثى لها,, رفع الجائزة على المنصة,, وعدّل عقاله مرة أخرى,, قام وهو يتحامل على نفسه,, ويتصنع اللامبالاة بما جرى,, رغم حبات العرق التي تتدحرج على جبينه حتى تسقط على الأرض أو تبلل ثيابه,, تلمس جيبه باحثاً عن منديل يمسح به العرق فلم يجد,, لاشعورياً مسح جبينه بطرف غترته حتى بدت أطرافها كشتلة أرزٍ من وفرة المياه,, عاد إلى مكانه وهو يضم جائزته إلى صدره,, وبزهوه المعتاد جلس على أريكةٍ في وسط المحتفى بهم,, برأسٍ مرفوعٍ,, وصدرٍ بارز,.
أسند ظهره إلى ظهر الأريكة,, وقد وضع ساقاً على ساق,, يلتفت يميناً وشمالاً,, وكأنه لايرى أحداً,.
انفضّ الحفل,, وعاد إلى مكتبه,, فازداد اهتمامه بالعمل,, يدور في مكتبه ينهي عمله وأعمال زملائه,, ولايدع فرصة لزملائه لعمل شيء,, تجده في التحرير تجده في الصادر,, تجده في الوارد,, تجده يضرب على الآلة الكاتبة,, تجده في المحاسبة,, تجده الموظف الوحيد الذي يعمل في كل قسم من أقسام المصلحة,, حتى أطلق عليه اسم/ الكشكول الإداري,.
لايثق بأحدٍ,, كأن الإدارة ملكه,, وفي غمرة فرحته,, وأخطبوطيته,, وتفانيه في العمل,, وديكتاتوريته التي تتجاوز صلاحيته حتى تصل إلى صلاحيات المدير العام,, ليعدّل عليه أو يوجّه الانتقاد لقراراته,.
ندّت عنه ضحكة بصوتٍ عالٍ,, يشوبه التشنج,, بين قهقهةٍ متقطعةٍ وعبرات تتكسر في صدره,, حينما بُلّغ أن الإدارة استغنت عن خدماته لبلوغه السن القانونية,, رغم نشاطه وقدرته على مواصلة العمل!! فخرج من مكتب المدير العام وهو ينظر إلى يديه,, يقلبهما,, ويحسس بهما على جسمه وينزل ليتحسس قدميه,, ما زلت قادراً على العطاء ,,!! ما زلت نشيطاً أنا بلاعمل!!,, أصبح كالساقية التي نضبت مياهها,, أنا بلاعمل,, كالشجرة التي قطعت جذورها,, أنا بلا عمل,, هأ,, هأ,هأ,, ماذا أقول لزوجتي؟ ماذا أقول لأبنائي؟,, ماذا أقول لأصحابي؟,, أنا عاطل!! أنا متعاقد!! أشرفت على الموت! حفر قبري بالنظام,, بكى,, وقهقه,, ثم سقط على الأرض وهو ينادي بأعلى صوته,, أنا كل شيء في هذه الإدارة,, بدوني سيتوقف العمل,, أعيدوني,, ولو فراشاً أو مراسلاً,, اجتمع حوله الزملاء في حالةٍ يرثى لها نقل بعدها إلى المصحة,, وها هو في غرفة من غرف المصحة,, بين يديه أكوام من الورق,, وبيده قلم يحرر,, ويوقع,, ويأمر نزلاء المصحة,, بديكتاتوريته,, كما كان يعمل معنا في أيام الوظيفة,.
سالم حسين الطريفي
بريدة
***
* الموظف المثالي لصديق الصفحة سالم الطريفي قصة ممتازة شكلاً وموضوعاً,, شكلاً: كان سالم الطريفي شديد الانتباه إلى مساحة الزمن الفني للقصة فقدم لنا كل أحداثها من خلال لحظة توجه فيها صديق إلى زيارة صديقه المريض، واختار لحكي الأحداث أسلوباً منطقياً يبرر الحدث بأسبابه النفسية المقنعة, وموضوعياً: يقدم سالم الطريفي موضوعاً هاماً يطرح من خلاله قضية تواجهها النظم الإدارية واللوائح التنظيمية، ليس هنا فحسب، بل ربما في كل بلاد الدنيا، حيث اختلفت القناعات والاستجابات إزاءها، فبعض الدول قد لجأ إلى تمديد السن القانونية للتقاعد خمس سنوات بشكل عام وبعضها وضع شروطاً لذلك إذا كان الموظف لايزال قادراً على العطاء فلابأس من أن يمدد له عامان أو أكثر,, ومن الجهة المقابلة يتتبع سالم حسين الطريفي الأثر النفسي لدى موظفٍ نشيط سرقه التفاني في العمل عن الانتباه إلى تقدم السن حتى فوجئ بأنه -وهو الذي كان يتسلم بالأمس جائزة لكفاءته- بأن العمل يقدم له استغناءً عن خدماته في مقابل الاعتراف والجائزة في السابق,, تلك حالة تدفع بالبعض إلى البحث عن عمل -أي عمل- يثبت به لنفسه أولاً وللآخرين بعد ذلك أنه ما زال قادراً على العمل، أو يدفع بآخرين إلى الاستكانة وصمت الذهول ترقباً لساعة يحين فيها أجله أصبح يدرك أنها وشيكة، أو يدفع إلى حالةٍ من حالات الجنون الرافضة لتصديق الواقع كبطل قصته سالم .
ربما لم يعالج هذا الموضوع من قِبل كُتّاب القصة السعوديين رغم أنه من صميم واقعنا الاجتماعي المتصل بدوائر العمل وهو امتياز لصديق الصفحة سالم يضيف قيمة أخرى إلى قصته الناضجة فنياً كما أسلفنا.
شكراً للصديق سالم ونتمنى له دائماً مزيداً من التوفيق.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
ملحق الخرج
مشكلة تحيرني
منوعــات
القوى العاملة
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved