Tuesday 22nd June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 8 ربيع الاول


قصة قصيرة
الفرحُ ينبض من جديد

صمت موحش يسود تلك الأرض النائية التي تبعد عن القرية بمسافة قليلة أصبحت أرضاً واسعة خالية من الحياة النابضة -هدوءاً يحتضن الصمت- فيلوذ هرباً مع كل نسمة هواء جافة فيحرك سكون أوراق الشجرة المعمرة والتي لم يبق غيرها على وجه الأرض المتشققة إلى جانبها وقف رجل مسن يحمل بيده اليمنى معوله وباليد الأخرى بذوراً لأنواع مختلفة من الفواكه,, يسقط المعول على الأرض,, يتطاير الغبار ويحمل معه البذور البائسة من الأكف المتشققة فتسافر مع نسائم الهواء على أجنحة الطيور المهاجرة,, تهاوى ذلك الرجل المسن على الأرض يبكي حزناً على ما آل إليه وضع أرضه ليفجر السكون الموحش ببعض التمتمات الموجعة,, ماذا سيكون مصيري؟ إنني أرى الحياة في هذه الأرض والآن لاحياة لي,, الأرض أصبحت مجرد أرض قاحلة لاأشجار أو نخيل أو نهر جارٍ ينسابُ بعذوبة بين أحضان الأعشاب الخضراء أو حتى طيور تحرك الأوراق كل شيء أصبح ميتاً رزقي على الله سبحانه ثم على هذه الأرض منها أخرج قوتي وقوت اطفالي والآن لاشيء- لاشيء.
أخذ يتأمل كل ذرة رمل وأعشاب تحولت إلى أشواك متهالكة، هناك كانت شجرة البرتقال وخلفها شجرة الليمون وفي الجهة اليمنى منها كانت شجرة العنب التي طالما استظل أطفالي تحتها وأخذوا يقطفون من العناقيد حبات العنب اللذيذة أم هذه الشجرة المعمرة كانت تنتشر حولها زهور فواحة وأغصان ندية وهناك، توقف في حديثه مع نفسه استنهضه الخوف المرتجف بين اضلعه وخطف بريق أحلامه مرارة الحرمان من استمرار أحلامه انت على أرضٍ قاحلة لاحياة فيها، لاأصدق ما أراه أمامي فجر حزنه بدموع متناثرة على وجهه المتجعد وصدى نحيبه يتردد بين موجات نسائم الصيف القاسية ثم شعر بأكف تربت على كتفه لينظر إلى الخلف فإذا بابنه الصغير ينظر إليه والدهشة تملأ محياه.
- أتبكي يا أبي؟
- لا,, لا يابني.
- انك دائماً تقول لي الرجال لا يبكون فلماذا إذاً أرى هذه الدموع؟
- إنها من الغبار المتطاير مع الهواء استقر بعيني فدمعت.
امتدت تلك الأكف الصغيرة كوردة ندية على وجه ابيه لتمسح أثرهما وهو يقول له مبتسماً:
- الرجال لايبكون أبداً.
- نعم يابني أنت على حق.
- إذاً هيا يا أبي انهض معي فأمي قد اعدت الغداء.
استجمع قواه واخفى حزنه بابتسامة صفراء باهتة والقى بنظرة أخيرة على الأرض، رفع بصره إلى السماء رحماك يارب، اللهم اغثنا.
ودع أرضه بخطواتٍ واهنة من جسدٍ هزيل ضعيف أفنى عمره في أرضه وأفرغ كل مالديه من طاقته في حفر الأرض بمعوله يستند على إبنه الصغير يضم بكفه المتشققة كف ابنه الذي خفف عنه وطأة الألم، مضت ساعات النهار طويلة لأنه تعود ان يمضي هذا الوقت كله في أرضه، وعندما قذفت النجوم ضوءها المتناثر على ستائر الليل المخملية عم الهدوء أفراد ذلك البيت الصغير كلا في مضجعه، أخذ يتفقد أطفاله الصغار يدثرهم ويحكم الدثار عليهم، حمل سجادته وانزوى في احد أركان الغرف فرشها وصلى ركعتين وأخذ يدعو الله سبحانه ان يفرج عنه كربته وان يرزقهم بغيث يحيي كل أرض ميتة, ظل كذلك إلى أن غلبه النعاس, أما الأرض فقد احتضنها الصمت الموحش وبدأت الرياح تشتد وتتحرك بعض الوريقات على أغصان الشجر التي أناخت بجذعها ورضيت بهذا الجفاف, ليختبئ القمر وراء سحب داكنة فتستبشر الشجرة توقظ الأرض المتشققة.
- انظري إلى السماء انها مكتظة بالغيوم الداكنة.
- نعم أيتها الشجرة الهرمة إنني أنظر إليها,, هذا هو القمر يختبئ من غيمة إلى غيمة أخرى.
- أيتها الأرض إنني اشعر بقطرات من الماء.
- نعم أيتها الشجرة إنه المطر ينهمر.
وفي تلك الأثناء استيقظ الرجل المسن على صوت ينبعث من الخارج، فتح الباب، خرج وهو ينظر إلى السماء وهي تحمل الخير والبشر إليه وإلى جميع الناس والأهم أرضه المتشققة والشجرة المعمرة العطشى، كل ذلك كان مع بواكير الصباح التي أذنت بالضياء بشعاع منير بين الغيوم التي أخفت اشراقة الشمس وحرارتها الشديدة, عم الكون الفرح والسعادة، خرج وهو يشعر بانه عاد شاباً يجري بكل قوة، أنفاسه تسبق أقدامه، اتجه إلى أرضه فإذا هي تسيل منها المياه ليخضر بعض العشب المتهالك, يسقط على الأرض وهو يجهش بالبكاء بدموع كغزارة الأمطار, حمل بين كفيه حفنة من تربة الأرض بعد أن تحول إلى طين تنبعث منه رائحة طالما كان ينتظرها، استجمع أكفه يدعو الله سبحانه وتعالى ويحمده على هذه النعمة العظيمة، ثم التف حوله زوجته واطفاله الصغار الذين أخذوا يتقافزون فرحين بنزول المطر.
صدى الذكريات
سدير

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
ملحق الخرج
مشكلة تحيرني
منوعــات
القوى العاملة
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved