Friday 25th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 11 ربيع الاول


شخصيات قلقة
شاتوبريان,.
تأرجح بين الزمن والأزل

غادر شاتوبريان الحياة الدنيا منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً تاركا عند قدميه صندوقا كبيرا من الخشب الأبيض، وقد احتضن مخطوطه (مذكرات ما بعد الموت)، وهو عمل ضخم يسرد فيه سيرته الذاتية، على نحو ملحمي، ويحلل من خلاله نصف قرن حاسم من عام (1789-1848)، انتقلت خلاله فرنسا من النظام القديم الذي ساد فيه العالم الملكي، وعالم الريف، إلى مجتمع متحرك انفتاحي هو مجتمع العصر الحديث الصناعي, وكان يأمل فرانسوا رينيه دوشاتوبريان، من مخطوطه الأخير هذا، أن تقترن شهرته باسمه، كآخر تعويض له، عن مستقبل سياسي، لم يرق إلى مستوى آماله أبدا، هو الكاتب الكبير ورجل السياسة الذي ترك خلفه ركاما من الأعمال التي لم يعد لها قراء او لنقل فقدت رونقها بسبب التحولات الاجتماعية والانطلاقات السياسية السريعة التي شهدتها فرنسا خلال فترة حياته العصيبة.
لقد تأرجح شاتوبريان بسبب ذلك بين الزمن والأزل الذي كان يخشاه، فأخذ يغازله ويمالقه في شعره، بينما كان في وسعه أن يثق في الخلود، هو رائد الرومانسية الذي سيظل دائما وأبدا، ذلك الساحر الفاتن، صاحب اللغة الأخاذة التي هي موسيقى وأسلوب بنفس القدر, فهي لا تحتار بين التأخير والمعنى، بل تمدنا - كما يشير الكاتب الملكي شارل موراس - بنشوة الكلمة .
وفي الواقع قدمت العبقرية للقرن الجديد الأفكار والصور بالذات التي كانت في سبيلها إلى تغذية الأدب حتى إلى ما يتجاوز الرومانسية.
لقد عادت العصور الوسطى إلى احتلال مكانتها في نتاج الخيال وحملت معها تذوق الغموض والطبيعة وكذلك الاهتمام بالوجد والمآسي.
لقد انتهى عصر الرعويات ذات اللوحات الباهتة التقليدية التي تشيد بحياة الريف على نحو مثالي، وانمحت القلوب الحنونة لتفسح المكان للنفوس المعذبة والمساحات الشاسعة الفارغة، الأمر الذي انطبع بقوة في أعمال شاتوبريان الأخيرة.
إن السأم الذي كان يعاني منه رينيه - وهو بطل سيرته شبه الذاتية التي كتبها في مخطوطه الأخير، مذكرات ما بعد الموت - لم تعد تلك الكآبة المبهمة التي نجدها عند الشاعر دوليل، والتي تتلذذ بتعذيب نفسها.
إننا نقف في مذكرات ما بعد الموت باختصار، ازاء حالة قلب مملوء بأكثر مما يجب من السوداوية، حيث لا يرقى إلى مستواه أي شيء في هذا العالم الخاوي.
ويعزى ذلك إلى المراهقة المتسمة بالحيرة التي مر فيها شاتوبريان، وإلى الثورات الفاشلة التي شهدها في تلك الحقبة من تاريخ فرنسا، ومنها تلك التي أخرجته من دائرة اللعبة كرجل سياسة، وكذلك وضعيته ككاتب وإنسان قبل أي شيء,.
وتعتبر أعمال شاتوبريان على الساحة الأدبية بشكل عام، ارهاصة لظهور كتاب ملتزمين بحياة عصرهم الحقيقية، كفلاسفة عصر الأنوار (القرن الثامن عشر) أمثال (ديدرو، وروسو، وفولتير، الذين يستخدمون الكتابة في مقام الفعل وعلى العكس.
يروي شاتوبريان أحداثا اشترك فيها - داخل سيرته شبه الذاتية - كما يصف مناظر طبيعية شاهدها بنفسه، وهكذا نراه، وقد جاب، أربع قارات, فهو الكاتب الرحالة الذي عرف كبرى الغابات الأمريكية في عام 1797م, وصحراء النقب، وهو الذي اخترق العواصم الأوروبية، وتأمل حول أطلال قرطاج (في تونس)، وجابه العواصف واضطر في طريقه إلى تبادل النيران من بندقيته، لقد عاد ورأسه مشحونة بالذكريات المثيرة والانطباعات المهولة,, حتى أن الانبهار بالأراضي البعيدة والثقافات الغريبة تجلت عبر أعماله إذ يقف بطله - رينيه - في نهاية مخطوطه - مذكرات ما بعد الموت - على شفير هاوية، يتحتم عليه فيها إما الاختيار بين الإخلاص للذات أو الاندفاع نحو الآخر، ذلك الذي يتخذ أحيانا شكل معسكر العدو وفي أحيان أخرى يتجسد في عقيدة غريبة عليه او حضارة مختلفة.
في فرنسا تقلب شاتوبريان بين بلاط الملك لويس السادس عشر (1774-1792)، وبلاط الامبراطور نابليون الأول (1804-1815) وسفارات لندن وروما وبرلين ومجلس الأشراف في فترة عودة الملكية إلى الحكم.
كما ترأس وزارة الخارجية من 1822 إلى 1824 لكنه ظل رغم تبوئه هذه المناصب الدبلوماسية العالية، رجل عصره القلق والمتأرجح ما بين ابتغاء الحرية والتمسك بالنظام.
ولما كان في مقدمة القلوب الرومانسية، فقد التهب حماسا لقضية حرية اليونانيين المهددين في وجودهم ورخائهم من الهيمنة الأجنبية، غير أن خبرته الثورية قد علمته تجنب الكلمات الطنانة.
وكان يعلم جيدا، مثلما علم بنجامين كونستان - زعيم الليبراليين - ما تخفيه أسطورة - الشعب السيد - من تجاوزات، وبناء عليه، فهو كان يفضل الحديث عن الحريات معتبراً أن ضمان الحقوق الشخصية، أكثر أهمية من ضمان سيادة جماعية للأمة.
غير أنه بالنسبة لهذه الحقوق، لم يكن ليحيد عنها قيد أنملة، وهكذا كانت الرقابة بالنسبة له شيئا ممقوتا، لا يكل ولا يمل من فضحها,.
وفي نهاية الأمر، كانت الليبرالية الأرستقراطية، هي محرك التزاماته، ومن ثم فهو كان يختلف أو يتصالح مع الأنظمة حسب ضمانها أو لا ضمانها للحريات الأساسية.
وهذا لا يعني أنه كان يدافع عن حقوق الإنسان حتى يصل بها إلى الفردية المطلقة التي يستشعر مخاطرها.
وإذا كان شاتوبريان، قد تعاطف أخيرا مع الجمهوريين، فلأنهم تعاطفوا مع هدف توحيد مواطني الأمة الواحدة، عبر روابط التضامن.
وهكذا نجد شاتوبريان متأرجحاً ما بين الملك والجمهورية، وفرنسا والعالم، والموروث والحداثة.
كما نجده في ذات الوقت غير مطلق التحيز، فهو أميل إلى اتباع صيرورة التاريخ، حتى وإن أظهر خلال حياته القلقة بعض التحفظ,.
* مترجمة عن لابل فرانس

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
لقاء
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
مئوية التأسيس
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved