منذ ان ولد وهو يبكي، لم يبك لألم او لانه جاء إلى عالم غريب, كان يبكي لان اطفالا مثله يتألمون، هو يتألم لالم غيره من يوم ولادته دائما يردد: هذه مأساة ان تكون انسانا في زمن تهدر فيه الانسانية, عندما كبر لم يخرج للعب مع اولاد القرية، ليس من خوف او خجل كما كانوا يقولون عنه بل لانه يحبهم جميعا يخاف ان يجرح احداً بكلمة، او يؤلم احداً بلمسة غير مقصودة, وهو في السابعة من عمره لا يريد ان يجرح كرامة اي انسان, بدأت معاناته الحقيقية عندما ذهب مع والده لشراء دجاجة رآها وهي تحاول الهرب من سكين الذباح القاسية، من بين عشرات الدجاجات وقع نظره على واحدة، رأى في عينيها جمال الحياة وحلاوة الروح، بكى بحرارة وألم يريد ان يصرخ ويوقف هذا الظلم عن هذه الدجاجة المسكينة، بعدها حرم نفسه من الطعام مردداً لماذا يقتلون الدجاج؟ بدأ هذا السؤال يتحرك في داخله لم يدر انه بسبب هذا السؤال سيسمونه (لص الدجاج) أو ,,, لانه قرر ان يخلص جميع دجاج العالم من هذا الظلم، لن يظلم او يأكل احد دجاجة بعد اليوم, بدأ في الدخول إلى محلات الدجاج لانقاذها حتى اكتشفوه, سأله احدهم لماذا الدجاح؟ أنت تنقذ الدجاج وتقتل آلاف الفقراء, الدجاج غذاء الفقراء، الاغنياء بامكانهم ان يأكلوا لحم الخرفان اعاده هذا السؤال إلى صورة في الماضي عندما اشترى والده خروفاً نشأت بينهما علاقة وطيدة علاقة لم يجدها مع اي انسان علاقة تفوق اي كلمة حب ووفاء، حتى قرر والده في أحد الايام ان يذبح الخروف بكى بحرارة (اقتلوني أنا وتعلق بالخروف فأبعدوه بالقوة, وهو يصرخ: بيننا علاقة اقوى مما تفهمون لا تقتلوا المشاعر الصادقة بيننا، يوم ذبح الخروف اعتبره ذبحا لاغلى مشاعر عرفها في حياته).
ربما السبب الذي جعله يختار كلية (الطب البيطري) لانه سيسخر نفسه لخدمة هذا النوع من المشاعر التي لا يفهمونها.
عندما تخرج زادت معاناته الانسانية، لان الظلم لم يقتصر على الحيوان بل تجاوزه حتى إلى الانسان، يتذكر حينما قرأ عن اطفال (البرازيل) بكى بحرارة لان أهلهم تخلوا عنهم لعدم قدرتهم على المعيشة وكوريا الشمالية، ماذا سيحتمل قلب لهذا الانسان إن كان يبكي على اطفال في البرازيل، ناهيك عمن هو قريب منه في فلسطين و(قانا) والصومال,, وكل طفل يتعذب في العالم يتألم له هذا الانسان عندما قرر ان يموت هكذا سيموت حتى يريح هذا الجسد من هذه الروح التي آلمته او ربما سيعذب الروح براحة هذا الجسد.
رآهم يرفعون جنازته إلى المقبرة لا يوجد بها سوى شخص سمعوه وهو يضحك (قتل نفسه هذا المجنون) وعندما وضعوه في القبر انهال عليه التراب وكان يشعر بسعادة والتراب يغطي ما كان بقي من جسده وعندما غادروا المقبرة قرر ان يتنازل عن جسده سيخرج منه ليعيش بروحه الشفافة التي تخترق كل شيء، استطاع ان يمسح جميع دموع الاطفال والمحرومين في العالم، استطاع ان ينتقم من الصهيونية الظالمة.
انتهى من غفلته، ثم واصل متابعته لنشرة الاخبار في التلفزيون وهو ما يزال يعرض الصور للآلاف من الاطفال والنساء المعذبين والمشردين في (كوسوفا) اغلق التلفزيون وألقى جسده على السرير، ولم تخرج روحه لانقاذ المعذبين ولكن خرجت إلى رب العالمين.
هاني الحجي
** في قصصه دائما ما يقدم لنا هاني الحجي بعداً فلسفياً، أو رؤية متجاوزة لمثول الواقع بماديته, للاشياء لديه مشاعر ليس بالضرورة تدفع بها إلى الآخرين وإنما يكفي ان يحس بها اولئك الآخرون,في محاولتنا ان نستجمع الملامح العامة فيما قدمه اصدقاء الصفحة في حصاد العلم الماضي كنا قد اشرنا إلى ثقافة الكاتب ومعرفته العلمية والفلسفية وتوظيف هذا كله في نص أدبي يظل محتفظا بلغته الادبية وبقدر كبير من شكله الفني.
هنا في هذه القصة يقدم لنا هاني الحجي البطل منذ طفولته محملا بوعي ربما كان هو وعي الكاتب نفسه، لا بأس، ويتتبع حياته منذ الطفولة حتى الممات - ولنا ان نتصور ذلك الزمن الممتد الذي شغلته حياة البطل مع ذلك لا يخل هذا الامتداد الزمني بفنية القصة كما سنرى - فهو يعرض صوراً لوطأة العذاب الذي يعانيه ذلك البطل بسبب وعيه بحقيقة الحياة التي تقوم على البقاء للاقوى وعلى توزع المخلوقات والكائنات فيها بين ضحية مستباحة وبين مستبيح يلتمس بقاءه على انتزاع الحياة من جسد تلك الضحايا ثم هو يتتبع الفكرة فيما يشبه الدوائر المتنامية، يبدأ بدائرة صغيرة لدجاجة يقع عليها اختيار سوء الحظ، ويوسعها هاني الحجي قليلا بدائرة لخروف كانت قد نشأت بينه وبين ذلك الخروف علاقة ودٍ لا يفهمها إلا من كان له مثل وعيه، ثم دائرة ثالثة اكثر اتساعا لاطفال صغار في حارته، ثم لاطفال القرية كلها، ثم للمعذبين في مختلف دول العالم، ثم للانسان على إطلاقه,, كأن هذا التطور في توسيع دائرة الوعي يتوازى مع تطويرها في الحجي لبطله من وعي الطفولة البريء إلى وعي النضج والاكتمال.
كأننا طوال الوقت ننتظر هاني الحجي حتى يفرغ من تقديم بطله إلينا بصفاته وأخلاقه، ثم لتبدأ بعد ذلك احداث لقصة تتشابك فيها علاقات ذلك البطل كما عرفنا به ذلك الكاتب بالآخرين، فإذا بهاني الحجي مباغتة يفاجئنا باكتمال للقصة يتمثل في نهاية مفاجئة بموت البطل حين كان يحلم بأن يتجرد من مادية الجسد ويصبح روحا شفافة تمسح الحزن عن المتعبين وتنتصر لحقوقهم في الحياة فإذا به فجأة في غمار الحلم يموت بالفعل!!
القصة إذن قصة شخصية لا قصة حدث، وبرغم ان الكاتب قد استعرض لنا حياة تلك الشخصية بكاملها والتي شغلت سنوات طويلة فإن الزمن الفني لديه لم يختل فتلك الحياة بكاملها لبطل القصة تخرج من خلال لحظة محدودة للتأمل من قبل الكاتب يستعرض فيها حياة بطله، وجميل من هاني الحجي انه لم يترك سانحة لبطله يتدخل في القصة بأي شكل من الاشكال، كأن ينقل الكاتب عنه جملة مباشرة حتى وإن وضعها بين علامات التنصيص,,, جميل لان بطله منذ اول لحظة بدأ فيها هاني الحجي يروي عن طفولته كان ميتاً بالاساس ونحن لا ندري,, وجميل ايضا بالمقابل ان الكاتب لم يتدخل كثيراً بتعليقات تشعرنا بوجوده ككاتب,, لقد توارى الكاتب خلف ستار وراح بصوت خفي يسرد علينا حياة البطل.
القصة جيدة وتلحظ ان صاحبها في كل عمل جديد يشعرنا بأنه يتقدم خطوة اضافية لما انجز في السابق.