Friday 9th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 25 ربيع الاول


شخصيات قلقة
ج . ف .هيندل ( 1680-1759م )
كان يصنع النجاح من حطام الفشل
مات واقفاً كالخيول البرية

رغم ان هيندل لم يولد في اسرة موسيقية الا انه ارهف اذنيه الى موسيقى الكون، يسمعها في حفيف الاوراق، ورجفة الريح، وايقاع الحياة، وعندما شب قليلا وجد اباه حريصا ان يبتعد به عن احتراف مهنة الموسيقى، يضربه على أصابعه اذا ما اقترب من آلة عزف، وامام هذا الحظر الأبوي كان هيندل يهرب الى اعلى المنزل بآلة كلا فيكورد قديمة، ويكتم اوتارها حتى يستطيع ان يعزف دون رقيب,, يعزف ويعزف مع غروب الشمس,, ولولا توسط احد الامراء لدى الاب بأن يعلمه الموسيقى لفقد عصر الباروك واحدا من اعظم الموسيقيين على مر العصور.
ظل هيندل يجمع بين الدراسة العامة ودراسة الموسيقى، حتى بعد وفاة ابيه ، ربما وفاء لذكرى هذا الاب, الا انه كان يقاوم رغبة شديدة في التحرر من دراسة لا تعنيه في شيء، وفي نفس الوقت يندفع كلية في بحر النغم دون ان يدري, وفجأة حين حقق بعض الشهرة ترك الدراسة الى غير رجعة وحصل على اول وظيفة موسيقية وهو في سن الثامنة عشرة من عمره, الا انه لم يقنع بذلك ، كان يريد ان يتعلم اشياء كثيرة، خصوصاً ان نبوغه المبكر جلب عليه حقد الكثير من زملائه، لدرجة ان العداء، في احدى المرات وصل الى المبارزة والقتال بسبب نزاع موسيقي على المسرح مع احد زملائه! هذه المشاحنات جعلته اكثر رغبة في السفر، رغم انه اصبح المسئول الاول عن الموسيقى في قصر امير هانوفر وهذا المنصب يكفل له حياة رغدة حتى مماته، الا انه ضاق ذرعا بكل هذا واستأذن الامير في السفر، ثم ذهب ولم يعد.
ولم يدُر بخلد هيندل ان يصبح امير (ها نوفر) ملكا الانجلترا جورج الاول فالتقيا مرة اخرى في لندن، ويقال: ان اهل الخير دبروا وسيلة للصلح بينهما، ففي إحدى رحلات الملك على نهر التايمز خرج هيندل مع جماعة من الموسيقيين في قارب خاص وراء موكب الملك وعزف له متتالية موسيقى الماء فأعجب بها الملك واستعادها مرات.
المواطن العالمي
وعاش هيندل حياته متنقلا بين العديد من مدن اوروبا، في ايطاليا,, في المانيا,, في انجلترا,, كأنه استبق فكرة المواطن العالمي حيث لم يشعر بالغربة في اي مدينة زارها، فهو الماني المولد والنشأة، ايطالي في اسلوبه الموسيقي ، انجليزي بالتجنس,, وهكذا كان شخصية متعددة الجوانب، يبحث خلال اسفاره تلك عن شيء واحد فحسب ، الا وهو فن الاوبرا وحين امتلك ناصية هذا الفن استقر في لندن، واصبح الموسيقي الرسمي للقصر ابان حكم الملكة آن والملك جورج الاول, وقد تميزت هذه الفترة بالنشاط والعمل الدؤوب في تلحين الاوبرات، وفي كتابة بعض المؤلفات للآلات من اجل تلاميذه من الامراء، ومرة اخرى يظهر الحاقدون في حياته بالدسائس تارة وبإيجاد منافسين له تارة اخرى، لكن شيئا لم يوقف موهبة هيندل الجبارة عن التأليف ببذخ وسخاء, ورغم النجاح الفني لأغلب اعماله الا ان النجاح المالي لم يكن مواتيا باستمرار.
في سنة 1728م أفلس المسرح واغلقت ابوابه، وخرج هيندل من هذه الجولة مفلسا منهار الصحة والاعصاب ، بعد ان تربع على قمة عرش الاوبرا,, لكنه بعد فترة استشفاء قصيرة استرد عزيمته الحديدية وعاد مرة اخرى الى لندن، التي يعشقها بلاحدود، وعاود الكرة من جديد، فكون فرقة خاصة للاوبرا واستأجر مسرحا وركز جهوده في سبيل تدعيمه ماليا وفنيا، ولكن في هذه الاثناء تكونت فرقة منافسة لم تدخر وسعا في مقاومته بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة,, ويبدو ان عنصرا سياسيا تدخل في الامر، اذ كان هيندل يتمتع بمناصرة الاسرة المالكة، بينما تتمتع الفرقة الاخرى بمناصرة امير ويلز (خصم الملك) وبعد صولات وجولات انتهى الامر مرة ثانية الى الافلاس والانهيار الصحي.
ولأنه يملك احساسا عاليا بنفسه كمؤلف موسيقى، وطاقة على العناد لاتلين، وحيوية لا تعرف مرارة اليأس، لهذا فإن هيندل دائما كان يملك القدرة على البدء من جديد ففي سنة 1837م عاد الى لندن اشد عنادا وصلابة مستعينا بأشهر مغنيات الاوبرا,, ويبدو ان هذه المحاولة الاخيرة قد لاقت نجاحا طيبا، وتحمس لها الجمهور الانجليزي حماسا لم يصادفه هيندل في اي اوبرا قدمها من قبل.
والحقيقة ان الانجليز لم يعجبوا بها من حيث كونها اوبرا وانما لما فيها من غناء ديني مؤثر، وهذا ما لم يعرفه هيندل الا متأخرا، فقد كانوا ينظرون الى اوبراته ذات الاسلوب الايطالي كفن دخيل متكلف وخال من الروح، وكانوا يفضلون عليها ما يسمى باوبرا البالاد، وهو نوع شعبي يتسم بالخفة والبساطة والغنائية .
وهنا تبدأ النقطة الحاسمة والخطيرة في المسيرة الفنية لهذا الموسيقي الكبير، حين ادرك ان مهمته في ميدان الاوبرا قد انتهت الى غير رجعة، وعليه ان يبحث لطاقته الفنية عن متنفس آخر!! رغم انه قد وصل الى سن كبيرة.
وكأن عمره الذي افناه في سائر المدن الاوروبية بحثا عن تقاليد وافانين الاوبرا قد ذهب هباء تذروه الريح!! اذا كان هيندل يملك الشجاعة على ان يبدأ من جديد فإن هذا في كل الاحوال ليس امرا سهلا ومن هنا يقسم الباحثون حياة هيندل الى مرحلتين اساسيتين، الاولى تمتد الى سنة 1741م والثانية تبدأ من سنة 1742 الى سنة 1752م ورغم انها فترة قصيرة نسبيا لكنها الفترة التي ضمنت لهيندل الشهرة والخلود في مصاف العظماء حين اتجه الى فن الاوراتوريو (وهو قالب غنائي ديني يشبه الاوبرا لكنه بدون ديكورات أو ازياء خاصة، ويبنى على فكرة دينية ذات حبكة درامية) وقد تفرغ له هيندل تماما وابدع عددا من الاعمال الخالدة اهمها اوراتوريو المسيح الذي نال نجاحا شعبيا هائلا، فهذا العمل الكورالي العظيم اصبح يقدم سنويا في معظم بلاد العالم، فيهز القلوب بما يحتوي عليه من مشاعر دينية صادقة وبسيطة.
لقد وجد هيندل نفسه اخيرا,, ووجد فنه الذي يحرك المشاعر ويلمس في النفوس وترا حساسا لقد ظل الاوراتوريو والاوبرا متداخلين في نشاط هيندل وتفكيره قبل ان يخلص للاوراتوريو وحده، واذا كانت اوبراته قد فشلت ولم يبق منها الكثير الا انها ادت وظيفة جليلة، اذ كانت بمثابة المدرسة التي بلورت عناصر اسلوبه وهيأته لمجال عظمته الحقيقي,, انها باختصار الفشل الذي تعلم منه هيندل كيف ينجح فيما بعد! لقد انكب هيندل على كتابة اوراتوريو المسيح بنشاط محموم، رغم انه آنذاك كان يرزح تحت وطأة هزائم الاوبرا، وكان في حالة من التجلي والإلهام، يعمل كل الوقت ملازما لداره ، لا يقابل احدا، حتى الطعام كان يحمل إليه وهو يعمل بلا انقطاع، فأتمه في اربعة وعشرين يوما، محققا بذلك احدى معجزات الطاقة البشرية التي تقهر الالم والاحباط ، فتجلت قدرته على التصوير والاحساس الدرامي، وفتح آفاقاً موسيقية روحية لم يفتح نوافذها احد سوى هيندل.
لكنه لم يهنأ طويلا بهذا النجاح الجارف حين كف بصره قبل أن ينتهي من تلحين آخر اوراتوريو له,, ولأن ينابيع التدين والايمان قد جاشت في حنايا صدره، فان هيندل لم ييأس وينعزل عن الحياة، بعد ان فقد إحدى حاستين لا غنى لأي مؤلف موسيقي عنهما, فلا يمكن لهيندل الذي يملك العناد وقوة الارادة والذي عاش يصارع الحياة ويتأرجح من قمم المجد الى وهاد الفقر والفشل، لايمكن ان يتصور نفسه قابعا في غرفته بانتظار الموت، بل ظل منذ سنة 1752 إلى سنة 1759م واقفا على خشبة المسرح يقود الاوركسترا - وهو كفيف - ويعزف مؤلفاته ويشارك في الحياة الموسيقية، الى ان قضى نحبه واقفا كالخيول البرية.
شريف صالح

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
لقاء
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved