Sunday 11th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 27 ربيع الاول


محمد العلي ,, ناقداً

محمد العلي شاعر وناقد، اما كونه شاعرا فهذه مسألة مقررة لا يختلف فيها اثنان، وموقعه في الحركة الشعرية في المملكة معروف، فهو في صف المجددين، وهو بحكم ريادته وسنّه ليس من المغالين في التجديد، بل من اولئك الذين ينطلقون من قاعدة تراثية مهيبة بحكم ثقافته ومن رؤية ابداعية ونقدية متميزة بحكم مواكبته ومتابعته للثقافة المعاصرة، وربما كانت المشكلة في دراسته كناقد تتمثل في ان تراثه النقدي موزع في الصحف والدوريات، وقراءاته الاولى التي كانت رائدة في وقت مبكر منذ السبعينيات بل الستينيات الميلادية ليست متوفرة، او في متناول ايدينا، ومن هنا لا يبقى امامنا للدراسة سوى بضع مقالات نظرية (لا يستهان بها) ومجموعة من الحوارات وبعض الزوايا، وهذه كلها - وان سلطت الضوء على رؤية العلي غير كافية لسبر أغوار فكره ومنهجه، لذا فإن ما اكتبه في هذا المقال محدود المصادر والمراجع يفتقر الى البعد التراكمي الكمي الذي من شانه ان يمد الباحث بما يوفر له مادة نقدية يقدر على استنطاقها، وليست هذه مقدمة اعتذارية بقدر ما هي تقرير لواقع وجدته ماثلا امامي حينما هممت بالكتابة عن محمد العلي الناقد، وحسبي ان يكون ما اكتبه مجرد اضاءة لرؤية هذا الناقد المتميز.
وليس بوسعنا ان نحشر محمد العلي في منهج نقدي بعينه، ولكننا نستطيع ان نزعم انه صاحب رؤية تنطلق من قاعدة ثقافية فلسفية عريضة، وربما كان في وصف حسين بافقيه لكتاباته بأنها مشروع ثقافي (1) أقرب الى الصواب، فالعلي يرى ان الساحة المحلية بل الساحة العربية النقدية تفتقر الى المشروع النقدي، لأن المشروع هو طرح منهجية جديدة للقراءة، ونحن لا نملك حتى الآن هذه المنهجية، الذي عندنا هو قراءة على ضوء مناهج نبعت وترعرعت وتطورت ولا تزال عند الآخر,, ويرى ان النقاد العرب اخذوا الاسس ثم قرأوا، وما كان ينبغي ان يفعلوه هو القراءة اولا ثم استقراء الأسس بعد ذلك لذا طالت فترة التجريب عندنا.
* ولنا ان نغامر بالقول ان محمد العلي ذو رؤية واقعية متكئين على قوله: ان المثقف هو القادر على هضم تصورات ثقافته في سياقها التاريخي، والقادر بنفس القوة على خلق حالة من التطلع الى الافضل يوصلها بطريقة ما الى المجتمع، لذا فهو يقرر موقفه ضد كل ألوان العبث اللغوي كما يقول.
ويبدو موقفه من الادبوجيا مشوبا بشيء من الغموض والطموح الى ان تكون هناك ادولوجيا موحدة، فالإنسان كائن اجتماعي يتوق الى الانتماء والى ان تكون له هوية، لذا فإن الفرد بحاجة الى مثل اعلى ولكنه يفسر المثل الأعلى تفسيرا ملتبسا الى ان يميط اللثام عن ذلك عند حديثه عن الرؤية الجمالية، فهو يستشهد بأقوال عدد من الباحثين وعلماء اللغة على ان للغة ذاتها سلطانا على النفوس والعقول وانها ذاتها تضمن رؤية للعالم، مؤكدا ان الاسلوب يخص سياقات داخل اللغة وان هذه السياقات هي التي تحمل الرؤية (2) .
ومن الواضح انه يتخذ موقفا متقدما متجاوزا ذلك الذي يقف عند الافكار التي تحملها لغة العمل الأدبي او النص، وتعبر عنه مباشرة عند بعض الواقعيين المؤدلجين او يرون انها انعكاس للواقع كما يراها الناقد المجري لوكاتش فهو يؤكد على الاثر الفني الذي يوصلنا الى حالة وجدانية او نفسية معينة، ويرى ان الأدلوجيا الشعرية تكمن رؤياها في تلك الحالة التي وصلنا إليها، فالقصيدة الناجحة - كما يقول - توصلك الى حالة انفعالية، ولكنه يؤمن إيمانا قاطعا بارتباط الادب بشرطه التاريخي حين يستشهد بقول العروي عنه يمثل روح كل حقبة المنطق العام الكامن وراء انتاجها ومشيرا الى قول الدكتور البازعي من ان الحداثة الشعرية يمكن تبنيها على مستويين: جمالي (مجموعة الخصائص الفنية) ورؤيوي (التفاعل مع الحياة الاجتماعية) وقول الدكتور الغذامي عن النص بأنه حياة (الفن هو للفن وللحياة معا) دون إغراق في تفاصيل العلاقة بين الفن والحياة مما يخرج بهذه الرؤية عن التحديدات الايديولوجية.
* وحين يعرف الرؤية بأنها منظومة من القيم او التصورات التي تربط الكاتب بالنظام الاجتماعي يرى ان الرؤية سلوك ويخلص الى ان المثقف ينبغي ان يصطفي من كل طائفة من طوائف المجتمع ايويولوجيتها محلقا بين الطبقات وصولاالى ما اسماه (ايديولوجيا المستقبل، وهو يرى ان الإسلام فوق الايديولوجيا لأنها ترتبط بالفئات وهو (أي الإسلام) رؤية شمولية مستشهدا بسيد قطب، فهو نص أول لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (3) .
لقد حاول محمد العلي ان يتحرر من إسار الايديولوجيا وان يتجاوزها من خلال بحثه المسهب عن الرؤية والموقف مؤكدا ان الموقف سلوك ايجابي، وهو كما يقول حسين بافقيه قد تأبّى على التجييل والتحقيب منطلقا على فضاءات التنوير والتجريب، كما ان الخيط الاجتماعي القائم على الانفتاح والتعددية الثقافية بالاضافة الى التطورات الاقتصادية التي لعبت دورا اجتماعيا في التفاعل مع الخصوصية البنائية الثقافية والديموغرافية كل ذلك ساعد على تشكيل الموقف النقدي للعلي، بالاضافة الى ان المناخ العام اسهم في تطور الابنية الاجتماعية، وبروز منهج في التعامل مع الظواهر الثقافية والإعلامية عكس التفاعل مع تلك الوضعية العامة، وكان لتربيته الثقافية التراثية الجادة اثر في اندفاعه الى التجديد كما يفهم من تصريحاته (4) .
وقد سمح له توجهه نحو الإيمان بتعددية الموقف في إطار الرؤية الشاملة الى تجاوز التعصب لموقف بعينه، فثمة عنصر ثابت هو الرؤية وآخر متغير تاريخي ناجم عن التفاعل مع الزمان والمكان استجابة لواقعه، فالموقف سلوك اجتماعي يقبل التعددية استجابة للظرف التاريخي، وهذه هي الرؤية التوفيقية التي تجمع بين الثبات والتغير، والمرونة والتشكّل، وهذا يمنع الرؤية من تجميد الموقف بل يسمح له بأن يتشكل في إطار هذا الموقف ويتعدد الأمر الذي يقود بالضرورة الى انفتاح افق الدلالة في النص ويسمح بتعدديتها.
وقد تجسد ذلك في منهجه النقدي الذي يعتمد على استنطاق اللغة واعتماده على جمالياتها كالصورة والايقاع والمعجم.
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في خطاب العلي الثقافي بعامة النهج التنظيري الفلسفي الذي ينهض على كليات مجردة فهو تحليلي يتناول المفاهيم تناولا نظريا، وهو ما لاحظه حسين فقيه، لقد بدا واضح النزعة المثالية، فهو اذ يدعو الى ايديولوجيا المستقبل حالما بالتعصب على ايديولوجيا الطوائف والفئات والمصالح المتضاربة, إن هذا الحلم يبدو مناقضا للواقعية كمنحى نقدي ومنهج إبداعي، وكموقف فكري، لأن هذه الواقعية، تبنى على تحليل الواقع المعاش ومعطياته، وتصدر عنها، فهي لا تنبثق من الأبنية النظرية، على الرغم من وجاهة الرأي الذي يقول ان الواقعية ذاتها تحلم بالتغيير وبناء المستقبل، فتنطلق من مقولات نظرية فإن مثل هذه المقولات ينبغي ان تكون وليدة تحليل الواقع نفسه وليست مفروضة عليه من علٍ وفقا لم يراه فلاسفة الواقعية، فموقف العلي مفارق لهم في هذا الاتجاه، لكن المرتكز الرئيسي في رؤية العلي النقدية اتكاؤه على الشرط التاريخي الاجتماعي في علاقته بالابداع.
وإذا كان منهج محمد العلي في خطابه ينهض على استحضار النصوص والعمل على تنسيقها وتنضيدها في اطار يوحي برؤية العلي، فإن القارئ - في بعض الأحيان - يضل في شعاب تلك النصوص، لأن الكاتب لا ينحاز لأي منها في شكل مباشر، وإنما يجعلها حقلا معرفيا يطوف بمعطياته، ويجمع تلك الباقة التي يقدمها للقارئ الذي ينبغي عليه ان يستخلص موقف الناقد، وبغض النظر عما في تلك النصوص من تباين يوحي بالتعددية والحوارية فإن قدرا من الاتساق المقصود يقف وراءها بحيث يملي على المتلقي رؤية الكاتب التي يريدها على الرغم من تعارض بعضها تعارضا بينا ومقصودا ايضا مما يؤكد منزعه المثالي الذي يتجاوز الايدلوجيات المتعارضة والطيران من فوقها وميلا الى رؤية مستقبلية, وبغض النظر عما رأى فيه بافقيه منهجا تبريريا يقوم على استدعاء النصوص القرآنية الكريمة بخاصة والدينية الاسلامية بعامة فإن مثل هذا المنهج له ما يسوّغه في ضوء الواقعية، فهو يتم مرتبطا بشرطه الاجتماعي التاريخي فعقيدة الأمة هي المرجعية الثابتة التي لا بد من الاستناد اليها، واسباب النزول شاهدة على تلك الملحمة الوثيقة بين الزمان والمكان من ناحية والفعل البشري الانساني من ناحية اخرى,, ولكن تبقى قضية بالغة الأهمية، تتمثل في موضوعية التحليل وصحته وتوفر شروطه المنطقية، وليس مجرد التبرير، ولا اعتقد ان ثمة ما يمنع من النظر الى النصوص الجديدة في سياق النص التاريخي العام الذي تتصل فيه تلك المقولات في إطار انساقها المتمايزة مع تلك النصوص.
* نعود الى موضوعنا الرئيس محمد العلي الناقد ولنستمع اليه يقول: انا لدي إحساس لغوي طاغ,, لدي إحساس باللغة مثلما هو حس الكلب لشم الاشياء هذه هي العبارة المفتاح لمنهجه النقدي، ثمة عبارة اخرى تكمن في تعريفه للشعر تتمثل فيما قاله في تعريف الشعر: الشعر هو ايصالنا الى حالة,, حالة معيّذة,, اقرأ القصيدة لتوصلني الى حالة لا يمكن ان أصلها الا بهذه القصيدة، ويفسر الحالة بأنها حالة جمالية مرتبطة اولا باللغة، فاللغة هي المآل كما يقول واللغة ليست مفردات، بل علاقات، وهذه العلاقات محكومة بإرث تاريخي، ولنا الحق في توليد علاقات جديدة.
ولذلك فإنه يقف ضد تيار بدأ يغزو قصيدة النثر يعتمد على المفردات فحسب دون إبداع علاقات بينها.
ويؤكد محمد العلي على العلاقة الجدلية بين السياق الفكري والسياق الوجداني والسياق اللغوي، وربط تجربته الشعرية بسياقها اللغوي، ويرى ان نقطة الارتكاز في هذه التجربة مرتبطة باستخدام اللغة منذ البداية في شعره العمودي الاول، فالقصيدة عنده - كما يقول - شظايا انفعالية لغوية (5) .
* إن اللغة حياة، هذا ما يؤكد عليه محمد العلي حين يستشهد بقول الشاعر محمد سعيد الصكار:
من يمنحني لغة خارج ما يحوي القاموس
تسافر خارج حدّ الوعي
وفوق مدار الاشياء.
لغة لا تفهم
كي اكتب عما يجري بين النهرين/ وأربيل/ وسامراء
اسأل عن لغة ضد المعنى/ ضد المنطق/ ضد الادراك
كي أكتب عما يجري في وطني.
انه يعقب على ذلك بقوله عن الصكار: قاله (الشعر) باعتباره إنسانا يدرك قيمة الحياة التي يفيض معناها على كل شيء فيجعل له معنى.
ان الأدب مرتبط بالحياة، يغوص الى جوهرها، يستل المعنى فيها، هذه هي الواقعية بعيدا عن الادلجة والتصنيف المجرد، الواقعية التي تستنبت الجوهر حين يوشك ان يتوه في خضم اللامعنى، إنه يربط الإبداع بالظروف وبالمرحلة التاريخية، فهو يعقب على ما سلف قائلا:
ألا تعبِّر هذه الفلسفة بدقة مدهشة عن وضع الأمة العربستانية الحقيقي (6) .
إن الهم التاريخي هو صاحب الحظ الأوفر في نقدات العلي، فهو يتوقف عند اللفظة الواحدة، او التعبير الواحد يريد ان يمتاح منه ما يصلح عنوانا على المرحلة برمتها، هذا الحس اللغوي الطاغي.
ختير القناديل هل تذهب حين سماعه الى السياسة أم الى الأدب ام الفلسفة ام هواة الاقتصاد؟ هل تذهب الى اقحام ذهنك في ماضي الامة او حاضرها او مستقبلها هذه الامة التي كتبت على ابوابها النفسية والعقلية والوجدانية: ختير القناديل ويقارن بين مفردات العربية والانجليزية مقرا ان التفاوت في الكم اللغوي هو تفاوت في الكم الوجداني، مؤكدا الارتباط بين اللغة والحياة مستشهدا بقول علوي العلوي: فالإنسان يعبر عما يمارسه في حياته العملية ويحوله الى لغة (7) .
* وثمة قضية نقدية اساسية تشغل محمد العلي: انها قضية العلاقات، يطرحها في حواراته وفيما يكتبه من زوايا فهو يقول: انت هذه الايام لا تقرأ جملة يحتاج محمولها الى خيال مؤلف ألف ليلة وليلة حتى يلتقي بموضوعه، لا ، انت تقرأ نصا كاملا تقطعت الوشائج اللغوية بين كل جمله، إنه نص بدون علاقات (8) .
ومن الواضح ان محمد العلي ذو نظرة شمولية في رؤيته للغة فهو يؤمن ان اللغة كيان مترابط يفضي الى تجسيد الواقع والنفاذ الى جوهره وهذا موقف واقعي غير مؤدلج، إنه ينطلق من النسيج الفني للعمل الأدبي، وإن بدا الهم الأساسي هما فلسفيا يصدر عن تأمل عميق للواقع وللثقافة والإبداع,وعلى الرغم من ان الباحث يجد نفسه مشتتا بين أعمال العلي النقدية سواء ما كان منها تطبيقيا او نظريا، فإن رؤيته تبدو متماسكة في منظومة فلسفية ترى ان ثمة ما يمكن ان يفعله المثقف او المبدع ازاء الواقع، وإن الالتزام امر مطروح وان انتشال الامة من هاوية التشتت يتم من خلال إعادة الروح الجمعية ليس فقط لجسد الثقافة بمفهومها الضيق، بل بمعناها العام (9) .
** الهوامش:
(1) حسن بافقيه، الايديولوجيا المرجأة، النص الجديد، العدد السادس والسابع ذو الحجة 1417ه، ابريل 1997م.
(2) المثقف والأدلوجيا، النص الجديد، دار الخشرمي للنشر والتوزيع قبرص، العدد الخامس، ذو الحجة 1416ه، ابريل 1996م.
(3) محمد العلي، النص الجديد، العدد السادس والسابع ذو الحجة 1417ه، ابريل 1997م.
(4) انظر حوار مع الشاعر والناقد محمد العلي، النص الجديد العدد الاول، جمادى الأولى 1414ه، اكتوبر 1993م.
(5) الجزيرة الثقافية، العدد 8242، 23/11/1415ه.
(6) الجزيرة الثقافية العدد 9586 الأحد 9/9/1419ه.
(7) الجزيرة الثقافية العدد 9593 ، 16/9/1419ه.
(8) جريدة الرياض العدد 10364 الخميس 7/5/1417ه.
(9) الحوار مع النص الجديد العدد الأول (مصدر سابق).

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved