Sunday 11th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 27 ربيع الاول


افق
في ثنائية معقدة,, ريتا عوض تزيح بعض الأقنعة,!!
محمد الحرز

ان ثنائية الشعر العربي المعاصر والتراث بوصفها علاقة تؤسس وعيا، يستوعب من خلالها التحولات المعمقة للتراث في أبعاده الفلسفية والحضارية والمعرفية والحياتية، تبدو مسألة في غاية الاهمية لكونها كتبت تحت ضغوطات الوعي المأزوم للتنظيرات الحداثية لجيل الرواد، وكان المعطى الاساس لتنظيراتهم والمنهل الذي يستقون منه مفاهيمهم، والمقاربة لتلك الثنائية، تكشف بدون مواربة، عن تقصير البعض في ادراك ما تنطوي عليه تلك الثنائية من ابعاد فلسفية وحضارية عميقة، واختلاط المفاهيم والمبادئ التي تنظوي عليها عند البعض الآخر.
ان هذه الاشكالية المتوضعة في افق الحداثة، تبقى نبرة هامشية وخارج دائرة الوعي المعمق، بينما من المفترض، ان تتمظهر على السطح باعتبارها منطلقا متوثبا لارتياد افق جديد لحركة التراث، وفي تجربة كهذه، تغير الاسئلة، وتفتح الابواب دون ان تلجها، تأتي ورقة التنظيرات، وتفتح الناقدة والباحثة اللبنانية ريتا عوض المعنونة (الكتابة الشعرية والتراث) - مجلة فصول - صيف 96 كأجلى مثال على تلمس تلك الاشكالية فيما هي مختبئة في مكامنها التنظيرية، حيث تبدو بممارساتها وكأنها تزيح بعض الاقنعة عن جسد الكتابة الحداثية التنظيرية، معرية إياها بدلالاتها المتناقضة والمتعددة,, إنها محاولة أكثر ارتماء في المستقبل لتجربتنا الحداثية كتجاوز للتحزبات الثقافية والفكرية المتمكنة من ثقافتنا العربية، ولوضعيتها الراهنة، فهي تقدم في البداية صورة بانورامية مركزة، تسهم في توضيح المفاهيم والمبادئ التي ارتكزت عليها الحداثة بالغرب، في موقفها من قضية العلاقة بين الابداع المعاصر والتراث، حيث تقف بداية عند الشاعر والناقد الانجليزي هيوم في مقالته المهمة التي كتبها عام 1993م بعنوان الرومانتيكية والكلاسيكية والتي نستخلص منها بأنها اول دراسة في الأدب تلتفت الى التحولات الحضارية، لتفسر بها التحول من مذهب ادبي الى آخر وايضا تشير الى ان هيوم أول من تنبه الى ان الشكل الفني في الادب الحديث سيتحول بشكل مواز لتحول مسار الفن التشكيلي الحديث وبذلك استطاع هيوم - كما تشير هي - ان يثبت مبادئ جديدة، أفاد منها ازرا باوند بشكل اخص، في وضع اسس المدرسة التصويرية، واليوت في تأكيده ارتباط الابداع الحديث بالتراث.
وفي وقفتها الثانية، تستعرض ريتا عوض كتاب الفيلسوف والناقد التشكيلي فور ينجر (التجربة والتقمص الوجداني) الذي نشره عام 1908م وكان لهذا الكتاب التأثير الأكبر على النقد الادبي الانجليزي الحديث بأسره، من خلال هيوم، حيث تبين ان فورينجر سعى من خلال كتابه الى تلمس الاسباب الكامنة خلف التحول او الانتقال المستمر في تاريخ الفنون التشكيلية بين المذهب الطبيعي والمذهب اللاطبيعي في الفن، اذ يستنتج بعد تقصيه الى ان تلك التحولات لا تعبر عن رغبة ذاتية او نزوات فردية بقدر ما تعبر عن اتجاهات حضارية ذات ابعاد فلسفية، مما يؤدي بالتالي الى نتيجة مهمة نستخلصها من ريتا من خلال قراءة كتاب فورينجر وهي: (ان الاشكالية الفنية تلتقي عبر الزمن بالتقاء الاجواء الحضارية والمواقف الوجودية، فتلغي بلقائها هذا البعد الزمني، ويبدو تأثر واضح في استنتاجات فورينجر بالمنهجية الماركسية في قراءة السيرورة التاريخية، ومن ثم تقدم ريتا عوض اهم القضايا النقدية التي طرحها اليوت والمتمثلة في موضوع الكتاب والتراث حيث يتضح من هذا التقديم، التأثر الواضح بفورينجر وهيوم وبالاخص في تعريفه للتراث المرتكز على الحس التاريخي والذي ينطوي كما يقول (على ادراك نافذ ليس لماضوية الماضي فحسب بل لحضوره وهو يلزم الشاعر بأن يكتب لا بوعي الانتمائي الى جيله فحسب بل بتاثير الشعور بأن أدب بلاده بأسره موجود بشكل متزامن، ويؤلف نظاما متزامنا) أنها رؤية متأثرة ومستمدة من رؤية فورنجر لتاريخ الفن التشكيلي، الامر الذي يكشف عن الوعي الجدي المتحرك في رؤية الحقول المعرفية والفنية المختلفة في التراث كوحدة عقدية ذات اهمية كبيرة في قراءة التراث واستقصاء تحولاته وتقلباته على كل الاصعدة والمستويات، ولعل التنظيرات النقدية التي قدمها اليوت، تعتبر حجر الاساس للمنهجين الاسطوري والبنيوي، وتستجلي ريتا عوض هذين المنهجين بلمحة موجزة وخصوصا عند رائد المنهج الاسطوري نورثروب فراي في كتابه تشريح النقد الذي كان له الاثر الكبير في تاريخ النقد الحديث، وهي فيما تستعرض في مقدمتها، تشير ضمنيا الى التجانس التام في الرؤيا الى التراث من مواقع وفصول معرفية معينة مختلفة عند الباحثين الغربيين على الرغم من وجود الفاصل زمانيا ومكانيا بين الفلاسفة والنقاد في الفكر الغربي.
بعد تلك الترسيمة التي صاغتها ريتا عوض في المقدمة، نصل الى انها ارادت من ذلك، وضع القارئ بطريقة مباشرة ومتعرية امام الفكر الحداثي العربي واسلوبه الانتقائي في بعض الأحيان عند تقاربه وتماسه بالفكر الحداثي الغربي، وتستدعي كمثال على ذلك ادونيس كرائد من رواد منظري الحداثة الشعرية حيث لم يستطع ادونيس,, كما تقول، ان يأتي بنظرة معمقة ومثقفة في قضية العلاقة بين الشاعر الحديث وتراثه، فهو ما زال يظن ان علاقة الشاعر الحديث بتراثه، تعني نقل تجارب الشعراء السابقين واقوالهم وقد سعت الى رصد الخلل المنهجي فيما يطرحه أدونيس من تنظيرات في الحداثة الشعرية، ويتمثل ذلك في موقفين بعثرت تماسكهما المنطقة، فالاول كما اشرنا سابقا علاقة الشاعر المعاصر بالتراث، والثاني: محاولة ادونيس لاثبات ضرورة الانقطاع بالنسبة للشعر المعاصر عن التراث.
فيما يخص الأول تقول ريتا: حين يواصل أدونيس حديثه عن التراث الغربي متسائلا عن هويته خالصا الى التأكيد ان التراث ليس شاعرا واحدا وليس مذهبا فنيا واحدا وانه ليست له ابداعيا هوية واحدة وانما متنوعة ومتمايزة الى درجة التناقض وكأنه يقول انه ليس بالإمكان الارتباط بالتراث بسبب التنوع اذ كيف يمكن للشاعر المعاصر ان يرتبط بشعراء مختلفين وباتجاهات متباينة وبروح غير محدودة أو متغيرة .
ان الذي دفع ادونيس في تصورنا للهروب من التراث بهذه الكيفية، هو موقفه,, المندس في كتابة زمن الشعر - في الثقافة العربية حيث يرى ان جوهرها ثقافة دينية ذات بعد مدني اي انها نشأت في احضان الدين وتحت راية الدولة انها تؤكد بصورة او بأخرى على المنظومة غير المحكمة وغير المتماسكة في فكر أدونيس، وهذه احدى اشكاليات الفكر العربي عموما منسحبة على خارطته منذ عصر النهضة.
أما فيما يخص الموقف الثاني، فتبين ريتا عوض لجوء أدونيس الى علم اللسانيات الحديث للتفريق بين اللسان في الكلام باعتبار ان اللسان هنا هو اللغة العربية والكلام هو النتاج الشعري في التراث حسب مقياس ادونيس، وإذا ما توقفنا وتتبعنا تعريف اللسان والكلام في علم اللسانيات الحديث حيث اللسان: هو النظام اللغوي الذي تحكمه مجموعة من القوانين والاعراف ويتشكل ضمنه الكلام وهو مجموع التجليات الواقعية لهذا النظام، يتضح لنا بجلاء المغالطة المنهجية التي وقع فيها أدونيس وهي تشير الى انه - أي أدونيس - اعتبر ان الكلام هو مجموعة القصائد الشعرية العربية الكلاسيكية وان اللسان هو اللغة العربية حتى يستطيع ان يصل الى نتيجة باطلة هي ان كل ما يكتب باللغة العربية هو بالضرورة تراثي, والحق ان القياس ليس ما ذكره أدونيس، فإذا كان الكلام شعريا - هو مجموع ما ابدع من قصائد فإن اللسان هو الشعر من حيث هو نظام تستنتج مبادئه من التجليات الشعرية الموجودة، ويتخطاها بتحويل هذه المبادئ الى اطار، يضم الشعر فتصبح هذه المبادئ للشعر ما هو علم النحو للغة من حيث هو موجه وقياسي واذا كان ادونيس اسس بممارساته الابداعية قصيدة جديدة، تحقق نبوءة او تكهنات النظرية الجديدة كما يقول في تنظيراته إلا أنها تبقى ملامسة للسطح دون التوغل في العمق، فقصيدة أدونيس كما يقول بحق عباس بيضون قصيدة كلاسيكية غير عادية مبنية على أساس العمود الشعري الجديد وايضا من جهة اخرى يرى ادونيس ان معيار القصيدة الجديدة يكمن فيما تضيفه على البنية القديمة إلا ان هذه الاضافة لا تستطيع اختزال تاريخ الشعر وإذا استطاعت - يقول عباس بيضون -: (فليس اسهل من اللعب اللغوي والحيل الكتابية والمهارة التشكيلية في تبصر بنية القصيدة ثم في إعادة تجميع اشلائها مجددا بطريقة مبتكرة وهنا دلالة اخرى على عدم الانسجام التام في الرؤية للتراث العربي سواء على الصعيد الفكري او النقدي الادبي، الامر الذي يؤكد بدلالة قاطعة ان النص الفكري او النقدي بشكله الحالي لم يعد قادرا على قراءة الواقع والتراث معا، وذلك لتعالقه وتساكنه في الاطراف المهمشة في حياتنا العربية الاجتماعية، وتفتح ريتا عوض احتمالاتها التجاوزية للخروج من أزمة الكتابة العربية الراهنة، حين تقول لن يتمكن النقد الأدبي من دراسة شعرنا الحديث دراسة جدية ذات قيمة، ما لم يكن الناقد على وعي نقدي تام بالتراث العربي ليس في مجال الشعر فحسب بل على المستويات الحضارية جميعا فالامة التي لا تعي ماضيها أمة تعيش على هامش التاريخ وعلى هامش الحاضر وفي موضع آخر تقول: وما نحتاج اليه هو النقلة الى اضفاء البعد الحضاري الى نقدنا الأدبي، وذلك بالعودة الى الأصول التي ارتكز عليها النقد الغربي المرتبط بالحركة الحديثة خصوصا من المبادئ التي وضعها فورينجر سبيلا الى كشف خصائص تراثنا الفني والشعري لنتمكن من تحديد علاقتنا به وموقع ادبنا الحديث منه يبدو من خلال هذه الرؤية الاستشرافية التي تطرحها ريتا عوض، انها تغافلت ما اشارت اليه ضمنيا في مقدمتها من التماسك والانسجام في البنية المعرفية للسياق الفكري والنقدي الغربي، ان مجرد العودة والاستفادة من الآخر، تحتاج في تصورنا الى مقاربة نابعة من رؤية اجتهادية، اي ان لها القابلية على الانفتاح مبدئيا الانفتاح بشكل عام وبصورة شاملة وهذا ما لم يأت في حياتنا الثقافية والاجتماعية الراهنة، اننا نحتاج الى نقلة نوعية حتى نصل الى رؤية الناقدة ريتا عوض بصورة أكثر منطقية وانسجاما مع تراثنا العربي الإسلامي.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved