Sunday 11th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 27 ربيع الاول


مساحات بيضاء
مساحات استثنائية,, لكذب جميل!
ريمة الخميس

لا احد يعيش ذات الحدث مرتين، الا بادعاء كاذب للمبدعين!، ليست هذه اعادة في الصياغة لمقولة الفيلسوف:انت لا تزال ذات النهر مرتين، ففي كل مرة تغشاه مياه جديدة ولكن للأرض حركة تدفع بالزمن في اتجاه واحد، لا يرتد ثانية واحدة يكرر احتشادها او فراغها من المعنى والحدث,, بندول الساعة المعلقة فوق الجدار، منذ ان فرغت من صناعتها يد ماهرة الى اللحظة، يتأرجح على وتيرة واحدة يمينا وشمالا، لكنه لا يعيد او يكرر الهبوط والصعود، ففي كل مرة يصاعد عد الثواني ، وشروق الشمس جديد في كل صباح، والتاريخ الذي يعيد نفسه ليس الا انخداعا بابهار الصياغة، والراحلون عن الارض مرة محال ان يعودوا اليها مرة ثانية.
المبدعون كذابون جميلون في ادعاء الاستدعاء والاستعادة، والمرور مرة اخرى من غمار لب التجربة، يتواطأ معهم النقاد والنظريات، ويؤججون فيهم حماس الاستمراء بشعارات صدق المعايشة وحرارة التجربة المستعادة والامر كله كذب جميل !
شاعر يتوجع ويتمزق، ويموت عذابا ووجدا، وحين يعود من موت العذاب او موت الوجد يرى انه قد اخترق حاجز الجنون, في موته الاول نشاركه وجع العذاب، وفي الثاني نقاسمه - بحزن - حزن المشاعر والوجيب، وفي جنونه نمنحه بعضا من الأسى واغداقا من الرثاء، مثله نكذب، ونبادله ادعاء بادعاء ولاندري,.
تلك تجربة حقيقية ألقت بها الارض في عدها للايام فوق هامة الشاعر، انسانا ككل البشر ينهض بنصيبه من الادوار في تحريك الحياة، وانتهت لكن خدوشا وشدوخا وحفائر منها بقيت فوق الصدر والذاكرة لا تكف تصرخ في ضميره، تطالب بان توارى في الكلمات حتى تهدأ وتستكين، ينتزع نفسه من غمار آخر ليوم آخر ويفرغها من اي انشغال كي يستعيد التجربة الماضية الصارخة، يحكي بازمنة الفعل الحاضرة ما كان قد غيبته حركة الأزمنة الماضية،,, اموت,, انهض,, فننتشى لروعة الصدق فيه ، مع ان لحظة الاستدعاء والمعايشة ختال، فتجربة الكتابة المستدعاة وهم، والشخوص فيها هواء، والكلام صمت مطبق ومرين، وانتشاؤنا لصدق التجربة مداهنة للادعاء ومقاسمة لامتهان آفة الكذب الجميل، فالتجربة ليست لنا ولا تطال شيئا منا، مع ذلك نتفاعل معها بحس غامر للتبني والانتماء، وغالبا دون ادنى محاولة لايقاظ الوعي والانتباه الى حقيقة الممارسة!,, ذلك التواطؤ بين المبدع ونفسه في ادعاء الايقاظ من جديد لتجربة محال ان تعود في زمن غير زمنها وبيننا وبين الذات والمبدع في قناعتنا المؤسسة على الوهم الجميل، وبين النقد في القيام بدور الوفاق والمباركة لاحلال الخيال في مواقع الوعي,, ذلك التواطؤ أ هو الجوهر والاساس في كون الفن فنا؟.
هذه اشكالية بسيطة اذا ما قيست الى اخرى اشد مبالغة في الادعاء لا نتردد في ان نطلق عليها صفات العبقرية والاختراق والتجاوز، لانها استشرفت في القادم اسراره فجاءت سابقة على زمانها,, من اي يقين الغد وضميره؟ وبأي قناعة نتلقى - ونعلن الاذعان - تجربة قد تكذبها دورة قادمة للأرض؟
استاذ ضليع كالدكتور عز الدين اسماعيل يشرح لنا الحالة الاولى، يقول ان الماضي في الحالة الابداعية,, يصبح مستمرا ومتصلا باللحظة الحاضرة، يصب فيها كما يصب النهر في البحر، حتى وان اعترضت مجراه كوابح للحركة او معوقات للجريان,, ان فكرة التسلسل الزمني لا تمثل للمبدع - في رأي عز الدين اسماعيل - الا تصورا نظريا للماضي، اما على مستوى التجربة فان كل الوقائع السابقة تنصهر وتصفى، او تقطَّر، لكي تصبح من منظور التجربة الراهنة خلاصة للماضي الذي يصب في الحاضر، كل موحد ينخرط فيه بالضرورة المبدع ليمارس تجربته الآنية المتفردة التي تصوغ ذلك الكل صياغة جديدة, هل يمكن ان نركن الى ما يقوله عز الدين اسماعيل، لنردد معه ان الماضي سائر في الحاضر، فلا يكذب المبدعون ولانداهن بالاذعان والتصديق ونفض الاشتباك؟ ام نعود الى عناد التمسك بتصورنا الاول، لنقول ان ما يسميه عز الدين اسماعيل صياغة آنية جديدة لخلاصة تجربة الماضي، ليس هو ذات التجربة الماضية المعاشة بل ادعاء لمثول جديد لها محال ان يكون، بل اكثر امعانا في العناد قد نزعم ان كل لحظة حاضرة ما تلبث - لحظة حضورها - ان تصبح ماضيا غمرت في نهايتها النهر مياه جديدة، بل حتى تجربة الاستشراف المستقبلي ، لحظة تمامها الحاضر، تكون قد اصبحت من ودائع الماضي التي لا تستعاد، رغم ان زمنها الموضوعي ما يزال في القادم البعيد، وحين نجتهد في تعمية الوعي بهذا الادراك للزمن، فاننا نكون كمن يجتهد في ان ينفي عن الفن اروع ما فيه، ذلك الكذب الجميل، وعن المبدع اعز ما يملك تلك القدرة على ادعاء المعايشة، وعن المتلقي نعمة التصديق والانخراط في المشاركة.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved