Sunday 11th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 27 ربيع الاول


بعد إعلان نهايته
ما الذي يمكن أن يفعله المثقف؟

في المجتمعات التي تفقد الصلة بتاريخها ومبررات وجودها، ينظر الى المثقف على انه كتلة من المرجعيات الجامدة، أو بنية منغلقة من الهوامات اللاواعية التي لم تعد قابلة للتطور او التكيف مع المتغيرات، وبموجب ذلك الاعتقاد يتعرض لهجائية دائمة وشرسة، رغم كونه أكثر الذوات استعدادا للتغير والتعاطي مع مستجدات الحياة، باعتباره جهة انسانية معنية بتجديد الوعي بالحياة، عبر الثقافة كحاجات او منتجات معنوية، لا تقل اهمية عن المنتوجات المادية، فهو عنصر فاعل في رسم روح وذائقة ووعي المجتمع.
ويسود ذلك الاعتقاد لعدم تجذر مفهوم المثقف في الوعي، بالنظر الى اطلاقية استخدامه، ولمرونته الفائقة التي تسمح بمغالطات في التصنيف وسوء استخدام من قبل المثقفين ايضا، وايضا نتيجة استجلاب مقولات مستلة من سياقات ثقافية بعيدة ومحاولة فرضها على الشكل الثقافي القائم، كمقولة نهاية المثقف مثلا التي باتت تتداول بكل ما يتناسل منها من تداعيات في كل مناسبة ثقافية، ولكن بمفهوم ومبررات الآخرين، وليس من احساس حقيقي وواقعي بها من منطلق حاجاتنا.
واذا كان صنف بذاته من المثقفين قد انتهى دوره بالفعل في مجتمعات اخرى، الايدلوجي ربما، فهذا لا يعني انتفاء دوره بالنسبة لمجتمعات اخرى، فالشرط التاريخي لتشكله ومبررات فعاليته ما زالت قائمة، رغم اكتظاظ مختلف الجهات الثقافية بنبرات متباينة من المثقفين، التائبين عن التفكير مثلا، او المنسحبين داخل ذواتهم، او الغائبين بذريعة التغييب، او الموهومين بمرض التجريد في اقصى تجلياته للتعالق بالآخر وهكذا، فلكل صيغة من تلك الصيغ دلالة تاريخية ينبغي المكوث امام سرها طويلا، وان توحدت جميعها في تأكيد دلالة موضوعية مفادها تراجع اهمية وفاعلية الثقافة، او هكذا يبدو.
وكل تلك الانماط وما يشببها لا تعد بشيء، وتتأكد عطالتها كلما حدقنا في الهامش الذي يدفع اليه المثقف والثقافة بوجه عام، ولكنها لا تنفي دورا مؤكدا، حقيقيا ومطلوبا في مجتمع ما زال في أمس الحاجة الى ضمير يشترك معه في صناعة المستقبل، ولا ينسلخ عنه او يتعالى عليه، اذ ان المجتمع الذي يعلن موت مثقفيه انما يشير بمنتهى الوضوح إلى أزمة في أكثر من موقع حياتي، وهو يعلن عطالة تفكيره وبلادة ذائقته، وامتناعه الواعي واللاواعي عن الاحساس والتفكير، او عزل حيوية تلك الفعاليات الانسانية عن سياقاتها الاجتماعية، وبالتالي الاعلان عن موات مرجعية انسانية اكبر واهم هي المجتمع ذاته، بالنظر الى كون الثقافة فعالية انسانية تعتمد على فعاليات اخرى او تعبر عنها.
اما ملامح التهميش وانتفاء الفاعلية التي لا يمكن اغفالها في مشهدنا فتستدعي من المقاربة النقدية المسئولة اكثر مما تتطلب من الهجاء والندب، بحثا عن خطأ البدايات الذي اوصل مثقفنا الى وهن النهايات، ومآلاته المثيرة للحيرة والأسى، بمعنى العودة به الى شرطه التاريخي، والبحث في الاسباب الثقافية والنفسية والاجتماعية التي رسمت ملامح صورته الراهنة، بآلية حفر تتعدى ملاحظة ظاهر اشكالية التردي الى اجتهاد في عمق الظاهرة ونسيجها الداخلي.
يستدعي ذلك المطلب مقاربة الثقافة كشأن حواري في المقام الاول، تتأسس عليه فعاليات الحياة بكافة تقاطعاتها الانسانية، حيث يصعب ان تحفز الآخرين لمجادلتك، او ان تختار محاوريك في ظل بنى الموات الثقافي والحياتي الأشمل، ومن يمد قامته في زوايا المشهد الثقافي المختلفة، راغبا ومؤملا في حوار، فلن يجد الا العناوين الكبيرة، والقضايا المزمنة، المعطلة بمواقف فكرية جازمة ومستعادة بصيغ أفقية، حد الاستنقاع في مكروراتها، والتي تجد من يستمرىء جمودها لانتفاء حاجته اصلا الى الافكار والاحاسيس المتجددة.
وتلك القضايا المستجلبة في الغالب من دوائر ثقافية نائية لم يطرأ عليها أي تغيير جوهري، ولم تتزحزح من تحجراتها منذ زمن، لأنها ببساطة لم تتعرض لمحاورة معرفية او ذوقية جادة ترفع مستوى الاحساس بها، ودفعها الى واجهة المشهد، لولا المصادمة الحادة منتصف الثمانينيات، التي يمكن اعتبارها واحدة من الاشارات الحية لما تستبطنه ثقافتنا من تنافس وتصارع ليس بين الفئات والاجيال وحسب، بل وعلى مستوى المفاهيم والذائقة والاعتقادات ازاء الطارئ الثقافي والسياسي والاجتماعي، ودلالة عافية لم يكتب لها التنامي، بل على العكس تعرضت للاجهاض او التحريف والنكوص.
وهذا الاستهلال المتبائس لحال الثقافة، ليس نعيا لمآلها، او هجاء للمثقف ودوره، ولا استخفافا بالجهود والأسماء التي كابدت من اجل التغيير، وتخليق آفاق إبداعية أكثر رحابة، ولكنه لاعادة الروح لواقع ثقافي، وحال مثقف آخذ في الابتعاد شيئا فشيئا عن القيمة والالتحاق بالهوامش التي تتزيا بعناوين الثقافة، كما هو دعوة لمحاورة حقيقية، تمتد في زوايا الثقافة والحياة بشكل افقي وعمودي، لتطال القضايا التي لن تكتسب مشروعيتها الا بمزيد من الحوار العميق، احتجاجا على تمثلها كحقائق منحسمة وغير قابلة للمجادلة، كما تتبدى في المشهد الثقافي ضمن حوارية احادية في أحسن الأحوال، ولذلك يصعب استكناه سر سطوتها، او اعادة فضها بأداة معرفية متقدمة.
ولا شك ان ذلك التحجر، الذي يسهم فيه المثقف بقسط كبير حيث يخشى من مفاجأة النتائج، ومستلزمات القيم، هو المعوق لأي بادرة حوار، وبالتالي فهو الكفيل باطالة مكوثنا في الهامش، وتضئيل منسوب اسهامنا الثقافي والحضاري بوجه عام، اذ الثقافة حوارية دائمة من اجل منظومة اجتماعية وقيمية متجددة تكسر العادات الثقافية والحياتية على حد سواء، كما تفسح المجال لأجيال ترفض التلاؤم أو الامتثال للواقع، وبالتالي تتيح هوامش تقبل الاصطراع الثقافي، وزحزحة قيم قديمة أو بالية بأخرى متجددة وفاعلة.
وهنا يكمن جذر الاشكالية لحال المثقف في مشهدنا، عند الوقوف على شروط تكوينه التاريخية والمعرفية، ومركباته النفسية والاجتماعية، ومبررات القصور الكامنة فيه، فالمثقف دائما امام مهمة اختراق منظومة معقدة شديدة الصلابة والتماسك من الابرامات الاجتماعية والمفاهيم والعادات والتسلطات والتقاليد والاعراف، التي يجد نفسه ملزما، وبالضرورة مختارا للارتطام بها عبر انتاجه اللامادي بكافة أشكاله الأدبية، فإذا ما تلاءم استسلاما لمغريات وصرامة واقع، او سلطة ما، فلا يمكن أن يكون جديرا بتلك المهمة، بل قد يتحول الى تعبئة لا واعية لتلك الخلفية المتشابكة والعاتية من المعوقات، التي تقف ضد فعل النماء الابداعي والانساني.
ووفق هذه المهمة الصعبة يمكن، بل ينبغي قراءة منجز وفعل كل اسم يطبع بصمته في المشهد، فكل طاقة ابداعية تسعى للمشاركة في ابتناء المشهد، مهما بدت متواضعة، او محدودة التطلع، لا شك تستبطن توقا، او رؤية، او ربما مشروعا يقوم بالضرورة على منظومة قيم وأفكار ضمنية او صريحة، تعمل ضد كافة أشكال مزدوجة التخلف والتسلط، فهي مستمدة في الاصل من رحلة مخاض اجتماعي شاق وطويل، او ربما من خبرة ومعاناة ذاتية تعلن تململها الواضح لايجاد بديل ثقافي حياتي، جذري بالضرورة، وان بدا مؤسسا ومتشكلا في متاهات اللاوعي والأحلام البعيدة، بمعنى الاتكاء مبدئيا على مهمة الوعي بضرورة واهمية التحرك باتجاه التغيير، ثم استيعاب ووعي شروط وكيفية ذلك التغيير.
إذاً فالحضور الثقافي الجديد، هو مبرر الوجود والذات الجديدة، باعتباره فعل انقلاب جذري ضد القائم والموجود والمفروض بمبررات تاريخية، او هكذا نفترض في اي فعل ثقافي مضاد، وبالتالي نفترض ايضا وجود ارضية ثقافية تتم عليها وبموجبها معركة التغيير، او محاولة المثقف اقتحام تكوينات الثبات والتحجر العرفية والاعتقادية والاجتماعية، وزحزحة بناها حتى باستحضار لون أو جنس ادبي او فني، يصعب ان يظل على حياده في معركة بهذا العمق والامتداد، كما تبدى في موجة قصيدة النثر مثلا، والاتجاهات التجريدية ضمن الاشتغالات التشكيلية ايضا، والتي لم تصنف كمنتجات صادمة للذوق وحسب بل عابثة بقدسية اللغة وانطولوجية الصورة.
وعليه فإن حداثة تلك الذات المثقفة، المهمومة بتخطي نسق العصبة او القبيلة الثقافية، المهجوسة بتوليد خطاب ابداعي محتضن بسياق حياتي اشمل، قائم على المغايرة والاختلاف، انما تعود في نشأتها ومآلها الى مرجعية اجتماعية يصعب افتكاكها منها، او تأسيسها بمعزل عن سياقاتها، وهنا مفارقة هامة ينبغي الانتباه اليها، فتلك الذات المتوثبة، او الراغبة في التجاوز انما تتحرك وعيا وحسا وكينونة بكل مظاهر تململها وحيرتها ونزقها وارتكاساتها على خط الزمن الطبيعي، التصاقا بالقيمة التجديدية، وانطلاقا منها، لا التحاقا اتباعيا بالأثر الحداثي كما يتمثل في شكلانية النص.
وهذا يعني ان التماس الذي يراد له أن يحدث بين المفاهيم الجديدة، والقيم القديمة يفترض ان يتم بشكل حواري لا تصفوي، تطمس فيه صيغة مستحدثة شكلا او نظاما أقدم، اي ان يتحرك الفعل النقدي بشكل حفري، عمودي وافقي، ازاء مبررات التحول ومجرياته الباطنية، بما يكفل الابقاء على عناصر فاعلة وضرورية في قيم أقدم، واستكمالها او استدماجها بمفاهيم احدث، فاعلة بالضرورة في مهمة التغيير.
هكذا يمكن الاحتفاظ باشارة قيمية هي هنا على درجة قصوى من الأهمية، مفادها ان ذلك الصراع الحتمي والمتقصد لا يستهدف الفئات الا بما يتعارض مع تطلعات ومتطلبات اللحظة التاريخية، والتي يفترض ان تكون معلنة بشكل صريح ومبرر في خطاب التغيير للوقوف على فاعلية الاحاريك وشرعية القيمة من المنظور او الحد التاريخي، فالانتقال من نظام ثقافي الى آخر بمبررات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة لا يعني الانقطاع عن الماضي، انما التوق الواعي لتوليد علاقة او صيغة ثقافية جديدة، قوامها ومبررها الانسان.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved