عسير,, تجربة ميدان لا شاهد عيان محمد بن ناصر الياسر الاسمري |
أراد الأمير خالد الفيصل بكتابه (مسافة التنمية: شاهد عيان) ان يكون عملاً تسجيلياً عن تجربة التنمية في المملكة من واقع منظورها في عسير،,, وقد اشار صاحب هذا العمل الفكري المطبوع,, الذي اصبح ملكاً لطلاب المعرفة,, والنقد- إلى ان عمله هذا ليس عملاً احصائياً، او اقتصادياً او اجتماعياً، فانه كذلك ليس سيرة ذاتية ولامذكرات!! بل ليكون شهادة عيان لاعماق التجربة في محاولة للكشف عن ابعادها، وتنظيراتها، واستخلاص الدروس الايجابية والسلبية.
وهنا فلا اعتقد ان هنالك اجمل من هذا التوجه لأن الدرس للإيجابيات والسلبيات هو احدى قواعد الادارة واعني به التقويم,, الذي سيقود الى تلافي السلبيات للارتقاء بالاداء المهني (الوظيفي) التخطيطي الى جودة تحقق الرضا,, والامير خالد لم اكن انظر اليه بمنظور الامارة الرسمي النمطي المحاط بالخوف من السلطة,, بل كنت اجد فيه مثالاً للقيادي الإداري الذي تخلى عن التقليدية والنمطية,, في ممارسة عمل الامير,, جاء الى عمل الامارة,, وقد مارس فكر التخطيط لرعاية الشباب مع مجموعة من الأوائل المؤسسين,, مندفعاً بحماس الشباب الذي يتطلع لتحقيق الآمال والاحلام,.
لقد مارس امير عسير عمله قبل ثلث قرن متسلحاً بتوصية من والده الملك فيصل -رحمه الله- بكلمات مدوية,, سمعتها من الأمير شخصياً - حين قال له والده وهو صاعد لمنامه وابنه يطلب منه التوجيه,, (راع الله يا خالد!!).
هذا جانب, وجانب آخر,, أن الرجل- قد عرض للقيادة التي كلفته بالعمل أن يمارس سلطات الحكم المحلي - الامارة- بمنظور مختلف كانت نظرتي إلى دور الامارة ابعد بكثير من كونها مسؤولة عن الأمن فقط, بل عليها أن تدفع عملية التنمية بكل قوة بالتنسيق بين الجهات التنفيذية والاشراف عليها, ولايجوز ان تحصر نفسها في الدور الأمني - رغم اهميته- بحجة ان باقي المجالات لها وزارات مختصة، وادارات تابعة لها في المناطق.
وكان المفهوم الذي يرى تدخل الامارة في مشروعات التنمية تطفلاً او تسلطاً، او ما إلى ذلك من التوصيفات، يخالف تماماً ما استقر عندي من انه يجب على الامارة ألا تتأخر عن أداء دور ايجابي في فعالية التنمية قوامه: التخطيط والتنسيق والاشراف والمتابعة .
ولتأكيد هذا المنظور اندفع الأمير خالد بقوة طموح الشباب ليقول لوزير الداخلية آنذاك- خادم الحرمين الملك فهد- يحفظه الله:
ارجو أن يتسع صدر سيدي لطلبين: الاول: أستأذن سموكم ألا أكون مسؤولاً تقليدياً تنحصر مهمته في نقطة عبور المعاملات بين الشرطة والمحكمة, بل أريد أن أتحمل المسؤولية كاملة أمام سموكم لتحقيق تطلعاتكم في نهوض الامارة بدور حقيقي شامل من خلال الإشراف العام على تخطيط مشروعات التنمية وتنفيذها، والتنسيق بين جهات التنفيذ , وكان الشرط الثاني,, استئذان الأمير في ان يستأذن والده الملك في السفر,, وكان جواب الرئيس المرؤوس هذا ما اريده تماماً, وأنا اخترتك لأني اريد هذه النوعية من العمل ومن التفكير ومن الامارة .
نعم ذلك ماتحتاجه الإدارة الحكومية اليوم وغداً ليس في الامارة فحسب,, بل في كل اجهزة الدولة,, فالتفكير الابداعي مطلب وهدف,.
لقد تطرق المؤلف الى آلية العمل التي اختطها,, ليخرج من تقليدية الاداء التي كان لها اسهام كبير في تأخر التنمية والعمران للارض والانسان,.
حين كنت تطالع منطقة عسير في عام 1391ه فإنك لاتكاد تجد بادرة تنمية ذات بال اللهم الا قيام مدينة الملك فيصل العسكرية بالقرب من خميس مشيط اما في باقي المنطقة فقلما ترى مشروع تنمية حقيقية بل ان ابها العاصمة كانت تحتضر,, فكل الاعمال انجذبت الى منطقة التنمية الوحيدة خميس مشيط,, وبدأت الدوائر الحكومية تفكر هي الاخرى في الهجرة من ابها اليها والبعض كان يرى نقل الامارة الى الخميس لان الشغل كله هناك ص118.
وقد وجد الامير -ص103- بيقين ان اكثر مايلزم المنطقة، وما يجب البدء به دون تأخير تلك المشروعات التي بدونها لايمكن ان تقوم لبقية الخدمات قائمة.
المياه هي اساس الحياة, والطرق هي شرايين الحياة والكهرباء هي نور ومحرك الحياة .
والطرق والكهرباء,, قد نعمت بها مناطق واسعة في منطقة عسير,, اما الماء ,, فإن الامر ما زال مأمولاً ان يشمل بقية محافظات عسير,, ولاندري سر تعثر وصول المياه لخارج النطاق الحالي,, وبالذات شمالاً,, للمحافظات التي تحولت الى مناطق حضرية تغيرت فيها نمطية استهلاك المياه,.
ربما ان وزارة الزراعة والمياه - المسؤولة عن توفير مصادر المياه لم تشغل بالها بالتفكير,, في الحداثة والتطور والارتقاء ليس في عسير فحسب,.
ويشير الكتاب ص 119 أن الخارطة الواقعية وجدت ان ابها والخميس والمناطق السياحية جميعها تقع في دائرة قطرها 50كم تقريباً من السودة مروراً بابها الى الخميس 50كم ومن ابها الى تمنية مروراً بالقرعاء 45كم والى الحبلة 55كم, وبين تمنية والخميس مروراً بأحد رفيده 50كم ، وعلى ذلك فان هذه المواقع كلها مؤهلة لتكون مدينة واحدة,,
والحقيقة ان التنمية في هذه الدائرة,, قد حققت نقله نوعية وكمية هائلة,, تحولت بالمجتمع الى مجتمع مدني,, وخدمات بلدية وارضية متسارعة وحركة تجارية معمارية فائقة.
لا اريد الاسترسال مع وقوعات الكتاب الجميلة التي ترى تطورها مع الزمن ينتقل من روح الطموح الشاب السريع الايقاع المحكوم بالعلمية والرؤية الشمولية,, وبين مضي الزمن السريع,, بالانجازات,.
ولا ادري رغم كل التلميحات من الامير خالد الفيصل عن السر في اختيار عنوان الكتاب مسافة التنمية شاهد عيان,, فكيف يكون شاهد عيان,, وهو تجربة ميدان صانع لها بالفكر والدعم والمؤازرة والمشاركة في كل ماحصل,, ثم ان الانسان لايشعر بالتغييرات التي يقوم باحداثها عملاً وصناعة كما يشعر بها من يستفيد منها,.
ولا اعلم هل للشأن الفيزيائي علاقة بالاختيار فالمسافة زمن,, يمكن حسابه بالثواني والدقائق والايام والشهور والسنين,, والزمن متواصل تنتهي فيه الأعمار,, وتستمر الادوار ومحكوم بالسرعة ولذا فإنني اعتقد ان مسافة الزمن الذي وجد فيه الامير نفسه بعد ثلث قرن من الزمن في العمل الميداني,, قد مضى بسرعة,,ومعه من سنوات العمر,, ولم تشبع النفس الإنسانية من طلب المديد من مسافة الزمن لاعمال الفكر في شأن العمران للوجدان!! ليشمل بقية المشاهد خارج نطاق دوائر التنمية المتداخلة في شبكة من تداخل الاختصاصات,, ولم تسمح المسافة الزمنية بالاتساع!!,, وقد سمعت من حديث الامير إليّ يوما ما,, ان ذلك الزمن قد مر كطيف حلم جميل.
ولهذا فإن هذا الاختيار ذكي يحمل ابعاداً ذات دلالات نفسية مليئة بالرغبة في استمرارية العطاء,, بعكس ما لو كان الاختيار مساحة للتنمية,, فالمساحة تحكمها اشكال هندسية,, يمكن قياسها,, اما الزمن فحتى لو تم قياسه مجازاً,, فإن الزمن لاحد له!!
*وأستميح الامير خالد الفيصل في انني- كشاهد عيان ولو على البعد اعتقد ان هنالك عوامل ساهمت في التنمية,, ولم يشر اليها الكتاب:
*لقد كان لقرار الامير الشجاع في تعيين امراء- الآن محافظون- من الشباب الواعدين بالعطاء,, بدلاً من السابقين ذوي القدرات المتواضعة في كل شيء حتى في معرفة الكتابة,, مجال رحب في فهم لغة الخطاب وتوافق التطلعات والدوافع والتوجهات,, وكان لاهل المنطقة مجال واسع في هذه التعيينات.
*المشاركة الشعبية الفاعلة,, في تقديم اراضي المشروعات الحكومية,, دون مقابل سواء من الاملاك الخاصة او الاملاك القبلية المشاعة - الحمى- في محافظات خارج نطاق ابها الحضري- الكبرى,.
*نظامية المجتمع القبلي التقليدي- في وجود حراس البوابات- مصطلح اعلامي- الذين يمررون المعلومات (التعليمات) الطلبات الى افراد المجتمع,, ومن ثم المجيء بقرار القبول (الدعم)المساندة,, سواء على مستوى النسق او النظرية,.
*مصداقية الامير لدى الناس من خلال وقوفه الحازم في منع منح الاراضي,, في الغابات,, واعرف ان الامير قد تعرض لكثير من الحرج,, بل والخصومة جراء موقفه هذا,.
وهذا ماحصل للسياحة: بقاء ونماء,, وخضرة وانتظار لبقية مناطق محافظات عسير,, التي لم تتسوح إلى الآن ولم تسوق.
*أشار الكتاب الى خطأ إداري تسبب ولله الحمد في اقامة مشروع للهاتف في بارق التابعة لتهامة منطقة عسير بدلاً من البرك التابعة ادارياً لمنطقة مكة المكرمة- وكيف ان هذا الجهل بالمواقع جعل السكوت على هذه السرقة من اجل اكمال المشروع,, والواقع ان هذا ليس الخطأ الوحيد,, فإن الطريق الدائري الذي نفذ في مدينة محايل قد تم بالخطأ- وهو الطريق الدائري الوحيد في تهامة- وكان الناس يستغربون وجود طريق دائري يلف اماكن ليس فيها عمار,, وقد اصبح الآن داخل المدينة,.
لقد كان لتشابه الاسم بالانجليزية لمدينتي بارق والبرك مغنم لامارة عسير ومغرم لامارة مكة,.
لكن واقع الحال لايمنع من التصريح بان مناطق التماس الحدودية بين الامارات عسير/ جازان/ مكة/ الباحة لازال ليلها طويلاً في انتظار توجيه الرعاية والخدمات اليها من اي امارة كانت: تقليدية,, او غيرها,.
*تمنيت لو كانت محاضرة دور الامارة في التنمية ضمن متن الكتاب لا ملاحقه,, فهي فكر للكاتب,.
*ولا اعتقد ان اشتمال الكتاب على ملاحق صور الخطابات وطباعتها الباهتة,, كان خياراً ما منه بد,, فلا يحتاج الكاتب الى ابراز وثائق وجداول يمكن الخروج منها بدلالات او استدلالات، فلم يكن ذلك هدف الكتاب.
لقد كان الكتاب حقاً تجربة ميدان لا شهادة عيان.
|
|
|