Saturday 17th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 4 ربيع الثاني


معادلات العولمة في الثقافة
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

قال ابوعبدالرحمن: المعادلة مفاعلة من الفعل عَادَل، وتعني تتابع أفعال (1) لإظهار تسوية تامة بين شيأين (2) في الأحكام كالمنافع، أو الأوصاف، أو المقادير,, الخ، او مفارقة تامة، أو تسوية جزئية بين عناصر الشيأين، وذلك على سبيل اليقين، او الرجحان، او الاحتمال المستوي الأطراف أو الطرفين.
والعولمة الراهنة كانت تلقائية في العالمين العربي والإسلامي بمنطوق قوله صلى الله عليه وسلم: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه !!,, إلا أن بروز العمل التنظيمي للعولمة - بالإغراء-، والضغوط، والإكراه - سيقضي على التلقائية البليدة البلهاء، وستعود الأمة إن شاء الله الى خصوصيتها في التمسك بالجذور، والتغذي بالجديد البرهاني,, والعولمة بانتقائنا البرهاني لا تخيفنا، لأن مقتضى ديننا: ان الحق ضالة المؤمن.
والأخذ، والرد، والإعطاء - كل ذلك عن برهان -: فحولة في الفكر، ومتعة في الوجدان,, وكل ذلك هو الرجولة المعتد بها في زحام العولمة، وبيان ذلك: أن معايير الحكم الموجه لسلوك العقلاء ثلاثة لا رابع لها البتة:
الاول: ان أنفي، أو اثبت، او احتمل: وجود ذات، أو حال: بفطرة العقل، ومذخور التجربة، وشاهد المعاينة,, وان أعرف مصادر الخطأ والصواب، والكمال والنقص،و العدل والجور,, إلخ,, إلخ,, وذلك هو معيار الحق.
والثاني: ان أعلم ان هذا السلوك نافع او ضار، ومربح أو مخسر، وراجح النفع أو مرجوحه,, وذلك هو معيار الاخلاق.
والثالث: ان اجد ان ذلك الادراك الحسي سار مبهج، او بارد فاتر، او سيىء يثير التقزز والغثيان والانقباض,, وذلك هو معيار الجمال,, وهذا المعيار مجرد علم بالوجود في الذات، ورصد لمواصفات الموضوع الذي صدر عنه وجدان جمالي,,
والمعايير الثلاثة يصدر عنها ملذات نفسية (إدراك الحس الباطن),, إلا أن الفيلسوف (بومجارتن) اغفل اللذة العقلية - التي تكون وجدانا قلبيا - عندما نحت كلمة (استطيقا) للدلالة على علم الجمال (3) ، فكانت اصطلاحا فلسفيا فنيا على علم الجمال اصبح فيما بعد يشمل ايضا لذائذ الاخلاق (4) .
قال أبوعبدالرحمن: وعلى اي تقدير فلذائذ الجمال والأخلاق ذات حكمين:
الاول: حكم إثباتي وصفي لما في الذات والموضوع,
والثاني: حكم تقويم يستند الى قيمة الحق، وذلك بفحص الذات المدركة - بصيغة اسم الفاعل الرباعي -: هل هي سوية في المعادلة بين الغرائز والنوازع، وهل لنداء العقل سلطان عليها، وما مدى اقتباسها من المعارف والعلوم؟,.
وبقدر التدني عقلا وعلما يكون الذوق متدنيا، فيكون الموضوع الذي طبع له جمالا ذاتيا باردا او قبيحا عند العقلاء والعلماء.
وكل دين صحيح الثبوت عن الخالق سبحانه فهو برهاني بقيمة الحق.
إذن (5) معيار الحق هو الحاكم في قيمتي الخير والجمال، والعقل - بملكاته، ومذخوره، وشاهده من المعاينة الحسية الراهنة - هو الذي يصنِّف الذوق الجمالي والخلقي تصنيفا فئويا حسب وضعية الجماعات عقلا، وتدينا، وقوة فكر، وسعة علم,, وهو الذي يبتغي المثل الاعلى لكل إدراك حسي باطني (جمالي، او خلقي)، فيكون السمو ما أمكن إلى الكمال هو القائد لكل استطيقا (6) .
قال أبوعبدالرحمن: ومما يطرح للمعادلة جانب العولمة الثقافية، وهي - أي عولمة الثقافة في الجانب المرفوض منها - تساوي (الثقافة المضادة)، ويأتي بيان هذا المصطلح إن شاء الله,, والثقافة مصطلح حديث لم تعرفه لغتنا، ولا تراثنا الاصطلاحي (7) بالمعنى الاصطلاحي الراهن,, ولكنه صحيح المأخذ من لغتنا من مادة الثاء والقاف والفاء، ويتدنى بجلال الثقافة والمثقف من يظن ان الثقافة تعني العرف القديم لكلمة (أدب) الذي هو الأخذ من كل فن بطرف على نحو كتب المسامرات كالمستطرف!!,, والواقع أنها اسمى من ذلك، لأنه يلحظ فيها المعاني اللغوية من الحذق ، والمهارة ،والجودة، والتهذيب، والتقويم، والتعليم، والتربية، والفطنة، والظفر والإدراك,, قال الراغب الاصفهاني عن بعض المعاني اللغوية: الثَّقَفَ الحذق في إدراك الشيء وفعله، منه قيل: رجل ثَقِفٍ,, أي حاذق في إدراك الشيء وفعله,, ومنه استعير المثاقفة (أي الملاعبة بالسلاح) ورمح مثقف,, أي مقوَّم,, ويقال: ثقفت كذا,, إذا أدركته ببصرك، لحذقٍ في النظر، ثم يتجوز به، فيستعمل في الادراك وان لم تكن معه ثقافة (8) قال الله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) (سورة البقرة 191)، وقال عز وجل (فإما تثقفنهم في الحرب) (سورة الانفال 57)، وقال عز وجل: (ملعونين أينما ثقفوا) (سورة الاحزاب 61) (9) .
قال أبوعبدالرحمن: ثم تأملت الاصطلاح الحادث للثقافة، فوجدته يحددها ذاتا - وهي ما ذكرته من حذق وفطنة,, الخ -، وينوِّعها حسب موضوعها,, وأعني بالموضوع ما يتعلق به تثقف الفرد من المعارف والمهارات، ولقد اقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة الثقافة بمعنى المعارف والعلوم الفنون التي يطلب الحذق فيها (10) ,, وجاء ايضا تعريف الثقافة على هذا النسق:
1- رياضة الملكات البشرية بحيث تصبح اتم نشاطا واستعدادا للإنجاز.
2- ترقية العقل والاخلاق، وتنمية الذوق السليم في الأدب والفنون الجميلة.
3- إحدى مراحل التقدم في حضارة ما.
4- السمات المميزة لإحدى مراحل التقدم في حضارة من الحضارات (11)
قال ابوعبدالرحمن: ويأتي التعريج إن شاء الله على الثقافتين (الأدبية، والعلمية).
وقال (وبستر) في قاموسه: الثقافة نموذج كلي لسلوك الإنسان ونتاجاته المتجسدة في الكلمات والأفعال، وما تصنعه يداه، وقدراته علىالتعلم ونقل المعرفة إلى الأجيال التالية) (12) .
قال ابوعبدالرحمن: وقبل التحقيق في مصطلح الثقافة احب ان استعرض ردود الفعل حول العولمة لكل ما سمي ثقافة، فمن تلك الردود ما نحا إليه بحث الاستاذ محمود طه شيخة - وما فيه من نقل عن الآخرين - من الفصل بين الثقافة والعلم والسياسة والاقتصاد,, وملخص ما عنده كالتالي:
1- إن العلم لا وطن له،, فما يستحدثه من نظريات في أمة من الأمم لا يضير ان تفيد منه بقية الأمم، ومن السهل ان تقبل العولمة (الهيمنة) في العلوم والسياسة والاقتصاد,, اما الثقافة فلا، لأنها مختلفة بين امم التاريخ المشترك,, وعلى هذا فستكون شقة لخلاف اوسع في مثل الثقافات العربية والاوروبية، لأن تاريخهما غير مشترك.
2- إن العولمة الراهنة (الهيمنة الامريكية) اعتداء على شخصية كل امة وهويتها، وقد حركت روح التمرد والمقاومة من أمم مثل فرنسا والصين وسنغافورة وإيران وصدرت قوانين حظر ومقاومة لتلك العولمة,, وهذا العدوان شرحه (دوشكرين) بقوله: ان الولايات المتحدة الامريكية تهيمن على الحركة الكونية في مجالات المعلومات والأفكار، فالموسيقى والافلام والبرامج التلفازية وبرامج الحاسوب (الكومبيوتر) الوافدة من الولايات المتحدة أصبحت شديدة الهيمنة والرواج، حتى إنها توجد اليوم في كل مكان على الارض بالمعنى الحرفي للكلمة,, وهي تؤثر بالفعل في أذواق كل الامم وحياتها وتطلعاتها على الرغم من النظر الى بعضها على انه مفسدة (13) .
3- إن الدول القومية تفقد نفوذها وتأثيرها في عالم السياسة.
4- إن هذا الفقدان تسببه بصورة مباشرة او غير مباشرة قوى السوق الكونية.
5- تأثيرات العولمة كونية الطابع غير محصورة في العالم المتقدم او العالم النامي.
6- إن العلم الاجتماعي التقليدي لا يمكنه تفسير هذه التغييرات.
وهذه الاربعة الاخيرة من كلام دانيال ديزنر (14) .
7- ان العولمة نفي للآخر، وليست اخذا وعطاء,, وهذا ما ابداه الدكتور محمد عابد الجابري، إذ رأى ان العولمة اختراق ثقافي يحل محل الصراع الايديولوجي (15) .
8- ان العولمة صيغة جديدة للأممية التي عاشت ردحا من الزمن باسم الماركسية.
9- ان العولمة ليست نظاما تثبت فيه العلاقات الوظيفية بين وحداته، ولكنه نظام قابل دائما للتغير، لأنه نظام دائم الحركة (16) .
قال ابوعبدالرحمن : هذه اوشاب من الحق والباطل في مفهوم الثقافة ونتائج العولمة الثقافية ومعادلاتها تحتاج الى وقفات وتتمات، والى لقاء.
** حواشي:
(1) بينت كثيرا ان المفاعلة ليست أصلا في تجاذب افعال من طرفين كما يقول جمهور الصرفيين,, بل هي تتابع أفعال فحسب سواء أكانت من طرف واحد مثل سافر، ام من طرفين مثل ساير.
(2) قال أبوعبدالرحمن: جرى أهل الرسم على كتابتها هكذا: (شيئين)، لأن الهمزة - عندهم - إذا كانت مفتوحة وقبلها حرف مد أولين ساكن فتكتب مفردة مثل السموءل، وجزاءين، وجزءين، وقراءات.
قال ابوعبدالرحمن: القاعدة رسم ما ينطق، ولا مسوغ لهذا الاستثناء، وما ذكروه وصف حالة وليس برهانا على استثناء حالة، فالصواب حينئذ الرجوع للأصل هكذا: السموأل، وجزاأين، وجزأين، وقراآت.
ثم استثنوا من هذه الحالة التي استثنوها، فقالوا: إذا وقعت الهمزة بعد ياء ساكنة فيرفع لها نبرة تركز عليها حتى لا تفصل حروف الكلمة من بعضها مثل خطيئة ومشيئة وشيئين وشيئان,, وعللوا بكلمة مسئول ,, لو فصلت لكانت مسءول ,, وهذا غير جائز.
قال أبوعبدالرحمن: حكم الهمزة المتطرفة انتهى بوجود حرفي الاتصال بعدها، فلا مراعاة له,, ورسم (مسئول) صوابه الرجوع الى الاصل هكذا (مسؤول),, وقد كافحت كثيرا - لما كنت موظفا بوزارة الشؤون البلدية والقروية - أريد رسمها هكذا الشؤون بدل الشئون، ولكن سحر القاعدة السلفية غلب الحجة والبرهان.
وكثير من قواعد رسم الهمزة في الوسط تحكُّمي لا مسوغ لخروجه عن قاعدة ما ينطق يكتب إلا لمانع ,, والأصح عندي كتابة الشيء إذا وقعت همزتها بين الكلمة وحرفي اتصال بعدها هكذا الشيأين والشيآن، لأنه انتقل حكم كتابتها متطرفة في اختيار القوم - وعلى نبرة في اختياري,, ولنبرة ياء ثانية -، وفسد فصل الحروف بحيث تكون الشيء ين ، او الشي آن، فرجعنا للقاعدة بكتابة الهمزة فوق ألف.
وأما دعوى ان الياء الساكنة في قوة الكسرة فليس بصحيح في مثل رسمهم (هيئة)، وإنما هو صحيح عندما تكون حرف مد مثل: بيئة، ومشيئة,, ولا بد من توسيع قاعدة اجتماع ألف الهمزة وألف المد، فتكتب علامة المد فوق الألف بدل الهمزة (هكذا ( ~ )، ولا يقصر ذلك على سبق ألف الهمزة لألف المد، بل يُعمَّمُ ذلك في حالتي اجتماعهما مثل: الشآم، وجزآن(3) انظر الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 280.
(4) المصدر السابق ص 281.
(5) تمنى أحد علماء اللغة العربية القدماء أن يكوي يد من يكتبها هكذا إذاً !!
(6) إيراد اللفظ الأجنبي اقتراض، والتعريب بثلاث كلمات هي الإدراك الحسي الباطني ,, والاقتراض حيئنذ أولى.
(7) مثل التعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء، ودستور العلماء للأحمد نكري، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.
(8) قال أبوعبدالرحمن: ليس هذا بصحيح، بل فيه إحكام قبضة، ولهذا ورد في سياق الآيات الكريمات القتل بدل المقاتلة والتشريد والأخذ، وهكذا لا يكون إلا عن إدراك ظفر وإحكام.
(9) انظر مفردات ألفاظ القرآن ص 173س.
(10) انظر المعجم الوسيط ص 98.
(11) معجم المصطلحات الغربية في اللغة والأدب لمجدي وهبة، وكامل المهندس ص 129.
(12) مجلة الفيصل عدد 269 ص 16.
(13) المصدر السابق ص 16.
(14) المصدر السابق ص 18.
(15) المصدر السابق ص 20.
(16) هذان الأمران الأخيران عن مجلة المعرفة السعودية العدد 46 ص 41.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيق
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved