Friday 23rd July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 10 ربيع الثاني


الحياة الطيبة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه اجمعين، أما بعد:
فيقول الله تعالى في سورة النحل: (من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون) النحل - 97 الحياة الطيبة في الدنيا فسرها العلماء بالرضى، والقناعة والرزق الحلال، والسعادة من جميع جهاتها، ولم يذكروا المال، او الجاه ونحو ذلك مما يتعلق بالدنيا وبالامور المادية؛ لانها قد تكون خيرا، وقد تكون شرا، فليست خيرا محضا، بل بحسب استعمال العبد لها كالمال - مثلا - هو نعمة، ولكن قد لا يقوم العبد بشكر الله كما ينبغي، ان ينفقه في الحرام او الشبه، او يسرف فيه، او يقع في الشح ومنع الزكاة، فلو لم يزكِ لهدم ركنا من اركان الاسلام، وصار وجود المال لديه - وهو بهذه الصفة - شرا، وانقلبت النعمة في حقه نقمة، ولذا فان العبد في حال كثرة النعم يكون حذرا اشد منه في قلتها، فالابتلاء بها اشد لكون الانسان اذا انعم الله عليه قد لا يثبت، وتزل به القدم، وهكذا حال الانسان، قال تعالى: (كلا ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى) وقال سبحانه: (وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار) ابراهيم: 34 ولذا يقول عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وهذا من فقهه وورعه - رضي الله عنه - فالصبر في الضراء لان الانسان ليس له الا ذلك ليس له اختيار فهو اسهل.
واما في السراء فلأن العبد له ان يختار وقد يختار، الاشتغال بالدنيا عن الآخرة، فهو اصعب - اي الصبر في هذه الحالة - ولكن ما الذي يعصم العبد من هذه الامور؟!، لاشك انه الايمان اذا وقر في القلب وصدقه العمل فلا يقع فيما يعود عليه في الآخرة بالضرر، بل ان امره كله خير، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (عجباً لأمر المؤمن ان امره كله خير) - الحديث في صحيح مسلم من حديث صهيب بن سنان - ويختص المؤمن بانه اذا انعم عليه عرف حق المنعم عز وجل عليه، فكانت هذه النعم خيرا في حقه؛ لانه يقوم بعبادة عظيمة، وهي الشكر، الشكر القلبي، وهو اعتقاد ان هذه النعم من الله عز وجل، وهو مسديها اليه، والشكر القولي بان يلهج بشكره والثناء عليه وحمده، والشكر العملي ، وهو صرف هذه النعم فيما يحبه الله ويرضاه، وحفظها من أن تكون في معصية الله، ثم هذا المؤمن لو اصيب بمصيبة، وابتلي بأي شيء يكرهه من المصائب الدنيوية، فانك لا تجده الا صابرا محتسبا حتى يؤجر، ويثاب في كلا الحالين، فهو ان شكر اجر، وان صبر واحتسب اجر، وهذا مما انعم الله به على المؤمن دون سواه، وخصه به، كما ورد في آخر الحديث قال - صلى الله عليه وسلم-: (وليس ذلك لغير المؤمن) ففقد غير المؤمن هذا الخير العظيم لما فقد نعمة الايمان، وحرم نفسه منها ولم يصدق، ولم يؤمن، وتكبر عن عبادة الله واتباع اوامره ونواهيه، ورضى ان يكون عبدا للهوى.
قال تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) الفرقان 43 .
يقول الحسن: (هو الذي لا يهوى شيئا الا ركبه، وكلما اشتهى اتاه، لا يحجزه عن محارم الله شيء) ويفقد ضعيف الايمان هذا الخير العظيم بقدر ما نقص من ايمانه.
يقول ابن القيم - رحمه الله - وانما حال العبد في حال معصيته واشتغاله بشهوته ولذته تكون لذة الحلاوة الايمانية مستترة قد توارت عنه، وذهبت فهو يري شهوة عاجلة، وقد باع بها لذة آجلة، والمؤمن حقا هو من عنده ذلك المقتضي وتلك الشهوة، ولكن لاشغال قلبه بما هو أحب ، خوفا من فوات اللذة الحقيقية في الآخرة، فانه يترك ما يريده لاجل ان الله لا يريده، فيقدم ما يحبه الله على ما يحبه ويعلم انه لاشيء انفع للعبد من الاقبال على الله، ولا حياة له، ولا نعيم، ولا سرور بغير العمل في مرضاة الله وذكره وشكره وتقواه، قال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) وطيب الحياة جنة الدنيا، واي نعيم اطيب من انشراح الصدر؟ واي عذاب اشد من ضيق الصدر؟ فالمؤمن المخلص من اطيب الناس عيشا وانعمهم بالا، فمن احب نفسه فليستعن بهذه الدنيا على الآخرة، وان كان لم يحصل له من طيباتها، فانه ما نقص منها كان زيادة في الآخرة.
ويقول عمر - رضي الله عنه - عند قوله تعالى: (اذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) الاحقاف: 20 لوشئت لكنت اطيبكم طعاما، واحسنكم لباسا، ولكن استبقي طيباتي.
قلت: رضي الله عن أمير المؤمنين: احسن العمل فاحسن الظن بالله، والرجاء فيما عنده، ولقد ضمن الله الحياة الطيبة لاهل الايمان في الدنيا قبل الاخرة، وهو امر معنوي ليس ظاهرا للعباد على كل حال.
يقول بعض الصالحين: مساكين اهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا اطيب ما فيها, وقال احد الصالحين: لو علم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
والحياة الطيبة ليست مرتبطة بالماديات، وقد ظن الكفار ان وجود المال والبنين لديهم هو دليل خيريتهم، بل ورضى الله عنهم، فقال تعالى:(ايحسبون انما نمدهم به من مال وبنين, نسارع لهم في الخيرات بل لايشعرون) المؤمنون 55,- 56 .
يقول ابن القيم رحمه الله: والأبرار في نعيم، وان اشتد بهم العيش ، والفجار في جحيم، وان اتسعت عليهم الدنيا، وقد يكون مسرورا سرورا مزيفا، ومثاله مثل السكران الذي احترق منزله وامواله، وهو - لا ستغراقه في السكر - لا يشعر بألم ذلك حتى اذا صحا فهو اعلم بحاله حيئذ.
الحياة الحقيقية التي لا يعرفها الكفار ابدا هي حياة القلوب، فهم ينظرون للاجسام وصحتها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لتجدنهم اصح اجساما وامرض قلوبا، وحياة القلوب تكون بطاعة الله ورسوله والاستجابة لله بالعمل بكتابه والاستجابة لرسوله بالعمل بسنته).
قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه، وانه اليه تحشرون) الانفال 24 .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره الى النار, وفي المسند عن - النبي صلى الله عليه وسلم -
قال: (إن الله إذا أحب عبداً حماه)، والله المستعان.
الشيخ/ أحمد بن محمد اليحيى
عضو مركز الدعوة والإرشاد بالرياض

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
لقاء
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved