الصيف
ذاك الذي كان يغسل قميص الفضاء من ادران الارض ويرصعه بومض النجوم وضحكات القمر ولا نهائية حركة الأجرام والكواكب السيارة ذاك الصيف الذي يحاصرنا بأوراق العرق لم يكن اقل حرارة من صيف هذه الأيام التي تجعلنا نرابط في اغلب ساعات اليوم بين مكيفات المكاتب والسيارات وبيوتنا التي تكاد لا تعرف اي شيء عن حركة الحر خارج الجدران.
بالنسبة لي كانت صيوفنا أكثر فاعلية.
وهذا لا يعني انني افضل حرارتها التي تقشر الأجساد على راحتنا الآن ونحن نلتحف البطانيات من شدة برودة المكيفات رغم انف الحرارة المتسكعة خارج بيوتنا.
فعالية تلك الصيوف تكمن في مواسمها التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر ليس من اجل الاستحمام في البحر وليس من اجل الذهاب الى عيون الماء الطبيعية فقط انما ايضا لأن الصيف بالنسبة لنا كان مجالاً خصباً للتخلص من عبودية المقررات الدراسية واحتضان القراءات الحرة المفتوحة على كل جهات الارض.
اذكر في بدايات الستينات ان بيتنا لم يتعرف على المكيف آنذاك بسبب عدم وجود امكانية لشرائه ولان بيتنا كان قريباً من البحر وكان هناك المعهد الديني الذي بنى حديثاً مواجهاً للبحر ويملك مساحة من الظل البارد لذلك لم يكن امامي حينها الا البحث عن شيء من نسمات الهواء خارج البيت ووجدت ضآلتي في ظل المعهد.
في ظهرية كل يوم كنت اخرج مصطحباً احد الكتب التي كنت استعيرها من اشخاص اكبر مني سناً وتجربة او من المكتبة العامة التي كانت مأوى عشاق القراءة واقوم بالتهام حروفها وكلماتها وجملها وسطورها وصفحاتها مثل الجائع الذي وجد وجبة دسمة لا يود ان يترك منها شيئاً.
في مثل هذه الصيوف تعرفت على كتابات سلامة موسى مثل (مشاعل الطريق للشباب) و(هؤلاء علموني) و(السوبرمان) وبعض كتب ساطع الحصري و(الأم) لمكسيك جوركي و(في بيتنا رجل) و(شيء في صدري) لاحسان عبد القدوس و(رد قلبي) ليوسف السباعي وعشرات الكتب الأخرى التي شكلت ثقافتي ورؤيتي لهذا العالم.
وفي مثل هذه الصيوف الخضراء التي يختلط فيها شهيق حبيبات العرق البشري بزفير حرارة الجو اللاهب سودت مئات الصفحات الجنينية من الأشعار والمقالات والقصص القصيرة والروايات الصغيرة والمسرحيات الكوميدية والتي بالطبع ليست الا خربشات من يحاول الصعود من سهول الصبا الى جبال المراهقة الأولى.
ممتعة كانت صيوف ايام البحث عن الذات في مجتمع يحاول ان يجد لنفسه مساحة قدم في عالم يموج بالاضطرابات ويحاول ان يزرع احلامه في عالم يطرد الحالمين.
شخصياً لا اريد حر تلك الايام ولا العودة لاستخدام الفوط الصغيرة لازالة حبيبات العرق الذي لا يكف عن التدفق ولا الرغبة في البحث عن ظل ما، كل ما اريده واحلم به الآن هو اعادة عطش القراءة وعطش حب المعرفة وعطش الفضول, ليس عطشي الروحي بالطبع انما للصبيان الذين يسيرون الآن في دروب اليباس الروحي.
من يفرحني بقارىء يحوّل حرارة الصيف الى حرارة الاكتشاف؟.
علي الشرقاوي