Friday 23rd July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 10 ربيع الثاني


شخصيات قلقة
تشيو جين (1876-1907م)
امرأة فقدت رأسها في العاصفة

قد تصبح المرأة اديبة او سياسية او باحثة، اما ان تكون ثائرة ومقاتلة، فهذا امر نادر في سجل الخالدات، والى هذا الصنف تنتمي تشيو جين المرأة الصينية التي تعتبر من رائدات التحرر الوطني في بلادها، والتي امسكت السلاح بيديها الرقيقتين كي تزيل عن وجه الوطن آثار الظلم والعدوان.
لقد عاشت حياتها ضحية للنظام الديكتاتوري القمعي، وماتت ايضاً ضحية لهذا النظام، وما بين خط البداية وخط النهاية عاشت كل لحظة في حياتها ثائرة حتى النهاية, فرغم انها ولدت في اسرة ميسورة الحال، تمتاز بالثقافة والادب، وتشغل بعض المناصب الحكومية والعسكرية، الا انها لم تركن الى دعة تلك الحياة الهادئة، الوارفة الظلال، فأخذت نفسها بالشدة، وقد وعت اهمية بناء جسم قوي من اجل تحقيق ، اي شيء عظيم، فأحبت ان تتعلم الفنون العسكرية من اقربائها لأمها الذين اشتهروا ببراعتهم في هذه الفنون، وكانت حين ذاك تبلغ السادسة عشرة من عمرها، فتعلّمت ركوب الخيل والمبارزة بالسيف والملاكمة الصينية، في حين كان اترابها ومثيلاتها يتعلمن فن النسيج ويمكثن في البيت بانتظار الزواج.
وربما نعتبر هذه الهوايات رغبة في التفوق وإثبات الذات، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، واحلام تشيو جين كانت بلاحدود، فعندما تزوجت تاجراً ثرياً ورحلت معه الى بكين، وجدت نفسها مرة اخرى تعيش حياة هانئة ورغيدة، وهذا ما لايرضي طموحها، خاصة بعد هزيمة الصين في الحرب الصينية- اليابانية (1894-1895) فبمجرد ان وضعت الحرب اوزارها خرجت الصحف والدوريات تعبّر عن الغضب الشديد ضد حكومة اسرة تشينغ التي تسببت في هزيمة وإذلال الامة، ووجدت تشيو نفسها تستلهم الروح الثورية لتلك المقالات والمنشورات، وتتصل بأصحابها وتناقش معهم كل مايجري في الصين، بل في العالم اجمع.
ومما زاد الطين بلة، وقوع الصين تحت سيطرة ثماني دول امبريالية، وشاهدت تشيو بعينيها الخراب المروّع الذي جلبه الامبرياليون لبكين,, تذبيح الشعب الصيني، ونهب الممتلكات وغير ذلك من مآس، مما كان له اكبر الاثر على مزاجها الحاد المتمرد، فوجدت نفسها تكتب القصائد النارية وتشارك في النشاطات الثورية، عاقدة العزم على ايجاد طريق للحياة من خطر الموت .
لقد كانت طريقاً محفوفة بالمكاره والمحن لكنها قررت ان تسير فيها بغير رجعة، فإذا كان الانسان الثائر يأخذ قرار البدء فإنه حتماً يملك قرار التوقف، انه طريق اللاعودة كما يقولون، لقد اخذت تشيو تحتقر حياة البذخ الخاوية التي كانت تعيشها كزوجة لمسؤول ثري، وقد عبّرت عن هذا في مقالها الصادر في العدد الاول من صحيفة نساء الصين فكتبت تقول:عزيزاتي الاخوات, يدخل المائتا مليون رجل في بلادنا اليوم الى عالم جديد متمدين, ولكننا نحن المائتي مليون امرأة مازلنا اسيرات الزنازين، ولقد عجزنا عن الخروج منها, اننا نلف اقدامنا ونصقل شعورنا، ونزخرف انفسنا بالزهور والزينات، ونرتدي المقصبات والمخرمات والحرائر، وندهن وجوهنا بالبودرة والحمرة, نعتمد على رجالنا في كل شيء في حياتنا, ومطلوب منا ان نلفت الاهتمام ونتملّق رضا الآخرين ونعاني الظلم ونبكي في صمت, نحن في واقع الامر سجينات مدى الحياة ونقضي نصف حياتنا كحيوانات الجر لاشك ان هذا الوضع المزري عانت منه المرأة في كثيرمن بلدان العالم الثالث، وقد وصفته تشيو بإحساس عميق مرهف، وبوعي يدرك ابعاد تلك المأساة من جراء الظلم الواقع على المرأة، فكانت بذلك اول امرأة صينية ترفع شعار الحقوق المتساوية للمرأة , وكانت تقول: لن تصبح بلادنا قوية ما لم تتعلم المرأة، وستظل بلادنا ضعيفة من غير حقوق النساء ومن هنا كات تدعو النساء الى تحصيل المعارف والاستقلال، ورفض القيود الاقطاعية، وتصف مشاعرها حيال كل ذلك قائلة:
ليس ذنبي اني ولدت فتاة
فعزيمتي اقوى من بأس الرجال
وسخيف العقل لن يفهمني
وشجاع القلب يتهيبني
لقد ثارت تشيو لاعلى اوضاع المرأة المتردية فحسب، لا على الظلم والطغيان فقط، وانما ثارت علىنفسها كأنثى وكامرأة، وكأنها ارادت ان تثبت تفوقها من خلال جلباب رجل, فحين زارتها احدى الصديقات وجدتها تفرز مجوهراتها لتدبر اموالاً لرحلتها الى اليابان، لأنها كانت ترى في اليابان وفي الغرب فرصة اكبر للتعلّم واثبات الذات، كما ان اليابان كانت تفتح ذراعيها للطلاب الصينيين الثوريين، وبالفعل قطعت آخر وشيجة تربطها بعائلتها وطلقت من زوجها، ثم رحلت الى اليابان غير آسفة على شيء, لتبدأ حياة جديدة مفعمة بالنشاط والعلم والحماس فانضمت الى جماعة العصبة الثورية ووجدت ترحيباً كبيراً بها، كما اشتهرت بكلماتها التي تتسلل الى القلوب الزاخرة بالحيوية، وبفعل هذا النشاط ارغمت على العودة الى الصين، وقد اعربت في رسالة الى اصدقائها باليابان عن عزيمتها الراسخة في مواصلة النشاط الثوري: سأفعل بعد عودتي كل ما اقدر عليه سعياً وراء الاستعادة المبكرة للصين الحقيقية, سنلتقي في وطننا, ورغم اني لست على يقين ما إذا كنت سأصيب نجاحاً فلسوف اظل اثابر على اداء مهمتي ما دمت حية, ومنذ ان شنت ثماني دول الحرب على الصين في سنة 1900م عقدت عزيمتي على تكريس نفسي لقضية الثورة, ولوفشلت او قضيت نحبي فسوف لا اندم على ذلك .
والحقيقة انه لم يعد لديها ما تندم عليه بالفعل، فهي لم تعد تعيش بأحاسيس امرأة، ولم تعد لديها مطالب خاصة من الحياة، بل باتت تدرك تمام الادراك انها تعيش وظهرها للعراء،وليس امامها سوى ان تواصل الطريق من اجل غد افضل للوطن، ومن هنا انشأت مع زملاء آخرين الاكاديمية الصينية التي تأسست خصيصاً لتقديم فرص التعليم للطلبة العائدين من اليابان، ولكنها كانت في نفس الوقت مقراً للثوريين وللجماعات السرية، كما اصدرت صحيفة نساء الصين لرفع الوعي الفكري لدى النساء، وإيجاد حالة عامة في المجتمع من اجل تعليم المرأة، فكانت تحررها وتراجعها وتوزعها بنفسها، وتكتبها بلغة بسيطة كي تفهمها النساء الاميات اذا ما استمعن اليها، ولكن رأت السلطات في تلك الجريدة خطراً عليها فمنعتها بعد صدور عددين فحسب.
ولأن تشيو جين ضحت كثيراً من اجل قضيتها العادلة فلاشيء يثنيها عن الاستمرار، ولانه لم يعد هناك ماتخسره تصبح كل الوسائل- في نظرها- مباحة من اجل تحرير الوطن, ومن هنا لم تكتف بنشر الاشعار والمقالات او التدريس والخطابة وعقد الاجتماعات السرية، وانما لجأت الى المقاومة المسلحة، فأنشأت مع غيرها مايسمى جيش الاعادة ، اي اعادة تأسيس حكم وطني وحقوق وطنية، وكانت تشغل منصب نائب قائد الجيش، وبدأت تاريخاً من الانتفاضات الدموية، وفقدت العديد من اصدقائها في القتال مما اعمل بداخلها مشاعر الاسى فكتبت الى احدى زميلاتها في المدرسة: يحزنني ان ارى اهل بلادي في فوضى واضطراب، ووطني تحدق به الاخطار, لقد اقتربت من نهاية حياتي, فما فائدة البكاء والعويل، ومن سيدفنني في هذه الارض الخراب؟ لاداعي لبناء قبر لي لأن الصين اطلال, ولنغن معاً اشعار بايرون في يوم آت, ان واجبي يحتم علي ان اقدم حياتي لوطني وانني سأعيش رغم الموت, الوداع! إنني سأفقد رأسي في العاصفة وكأنها تكتب نهايتها بخط يدها، بالفعل لقد فقدت رأسها في العاصفة.
ففي يوم 19 يوليو سنة 1907م ، وبعد ضربات موجعة وجهت لقوات التمرد في اصقاع الصين، تأهبت تشيو جين لمغادرة مسقط رأسها شاوشينغ بناء على اقتراحات بعض زملائها، على امل العودة في المستقبل، لكن القدر لم يمهلها فقد حوصرت المدرسة التي تعمل بها ودوتّ الابواق ولعلع رصاص الجنود، فأصدرت اوامرها للمتمردين بالرد على النار بالنار، وبعد ساعة من تبادل اطلاق النار كانت تشيو لاتزال في قوتها وعنفوانها، ترتدي قميصاً ابيض وبيدها مسدس تطلق النار على المهاجمين، ولكن احد الخونة غافلها من الخلف وانتزع الجنود المسدس من يدها واسروها، وفي اليوم الثالث من اسرها نفذ فيها حكم الاعدام فجراً في احد شوارع بلدها شاوشينغ ,, وعلّق الجثمان امام عيون الآخرين ولسان الحال يقول: هذه انا,, تشيو جين,, نسيت اني امرأة وفقدت كل شيء من اجل الوطن,, ولست نادمة على شيء لأن مثلي ستبقى خالدة وان مات، ويموت الجبان وان كان حياً.
شريف صالح

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
أفاق اسلامية
لقاء
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved