Monday 26th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأثنين 13 ربيع الثاني


الحوار بين الأديان: هل هو حوار طرشان؟! (2 - 2)

تلك بعض من الاسباب التي جعلتني متحفظاً على دعوات مؤتمرات وندوات الحوار بين الاسلام والنصرانية الغربية,, وهي اسباب دعمتها وأكدتها تجارب حوارية مارستها في لقاء تم في قبرص اواخر سبعينيات القرن العشرين,, ووجدت يومها، ان الكنيسة الامريكية - التي ترعى هذا الحوار وتنفق عليه - قد اتخذت من احدى القلاع التي بناها الصليبيون إبان حروبهم ضد المسلمين قاعدة ومقراً لادارة هذا الحوار؟!.
ومؤتمر آخر للحوار، حضرته في عمّان - باطار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية - مع الكنيسة الكاثوليكية - في الثمانينيات - وفيه حاولنا - عبثاً - انتزاع كلمة منهم تناصر قضايانا العادلة في القدس وفلسطين,, فذهبت جهودنا ادراج الرياح!,, على حين كانوا يدعوننا الى علمنة العالم الاسلامي لطي صفحة الاسلام كمنهاج للحياة الدنيا تمهيداً لطي صفحته - بالتنصير - كمنهاج للحياة الآخرة!,.
ومنذ ذلك التاريخ عزمت على الإعراض عن حضور مسارح هذا الحوار !.
لكنني عندما دعيت من المجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية - والذي اشرف بعضويته - الى لقاء اسلامي مسيحي مع اتحاد الكنائس الانجيلية في المانيا - 29 ذي القعدة - 2 ذي الحجة 1417ه 7 - 9 ابريل 1997م - بعمان لم اتردد في تلبية الدعوة لا لأني قد غيرت رأيي في مثل هذه اللقاءات وانما لطبيعة الموضوع الذي كان محور هذا اللقاء,.
فلقد كان الموضوع عن الدين والعلمانية ,, فأحببت ان أسمع رأي الكنيسة - الغربية في تجربتها مع العلمانية التي صارعت المسيحية الغربية حتى صرعتها - وهي العلمانية التي صدرتها لنا اوروبا، لتصنع مع اسلامنا ما صنعته مع النصرانية الغربية -.
وزاد من حماسي لحضور هذا اللقاء تكليفي بالتعقيب على بحث من بحوث هذا اللقاء عن عملية العلمنة والمسيحية الغربية كتبه الدكتور جوتفرايد كونزلن - وهو استاذ في اللاهوت الانجيلي والأخلاقيات الاجتماعية بجامعة القوات المسلحة - في ميونيخ - بالمانيا -,, اي انه قسيس وعالم اجتماع في ذات الوقت.
وهو بحث فيه من نبرات الصدق ما يجعله شهادة ادانة للعلمانية الغربية، ولما فعلته بالنصرانية، وبالانسان الغربي,, ومن ثم ادانة للغرب وكنائسه وعملائه من المتغربين العلمانيين في بلادنا، الذين يعملون على ان تصنع هذه العلمانية بإسلامنا وانساننا المسلم هذا الذي صنعته العلمانية بالنصرانية الغربية والانسان الغربي.
لقد وجدت في حضور هذا اللقاء فرصة استثنائية للحوار مع قس وعالم اجتماع، حول قضية مشتركة، هي هزيمة العلمانية للدين، ثم عجزها عن القيام بالدور الذي يجب ان يقوم به الدين في حياة الانسان,.
وكما سعدت ببحث الدكتور كونزلن وأثنيت على صدقه مع نفسه وان كان قد وقف عند نقد الذي حدث,, ولم يقدم، صراحة، مخرجا من المأزق الذي سقطت فيه اوروبا العلمانية - فلقد سعد الرجل بنقدي لهذا الذي حدث ويحدث باوروبا وكنائسها حول هذا الموضوع,, رغم ما لامسه نقدي من نقاط حساسة يقابلها الكثيرون عادة - ولقد قابلوها - بتوتر قارب الاحتقان!.
***
ولأن هذا الذي كتبه الدكتور كونزلن هو شهادة شاهد من أهلها,, ولأن تعليقي على شهادته هذه هو موقف لا علاقة له بالمداهنة والنفاق اللذين تطفح بهما اغلب منتديات الحوار الديني,, فلقد آثرت ان اقدم جميع ذلك الى الباحثين والقراء,.
لقد قال الدكتور كونزلن في بحثه هذا عن العلمنة، وعن صنيعها بالنصرانية,, وعن الثمرات المرة التي تعاني منها أوروبا اليوم:
* لقد مثلت العلمنة: تراجع السلطة المسيحية,, وضياع اهميتها الدينية,, وتحول معتقدات المسيحية الى مفاهيم دنيوية، والفصل النهائي بين المعتقدات الدينية والحقوق المدنية,, وسيادة مبدأ: دين بلا سياسة وسياسة بلا دين.
* ولقد نبعت العلمانية من التنوير الغربي,, وجاءت ثمرة لصراع العقل مع الدين، وانتصاره عليه، باعتباره مجرد اثر لحقبة من حقب التاريخ البشري، يتلاشى باطراد في مسار التطور الانساني,.
* ومن نتائج العلمانية: فقدان المسيحية لأهميتها فقداناً كاملاً,, وزوال اهمية الدين كسلطة عامة لاضفاء الشرعية على القانون والنظام والسياسة والتربية والتعليم,, بل وزوال اهميته ايضا كقوة موجهة فيما يتعلق بأسلوب الحياة الخاص للسواد الأعظم من الناس، وللحياة بشكل عام,, فسلطة الدولة وليست الحقيقة هي التي تصنع القانون,, وهي التي تمنح الحرية الدينية.
* ولقد قدمت العلمانية الحداثة باعتبارها ديناً حل محل الدين المسيحي، يفهم الوجود بقوى دنيوية هي العقل والعلم,.
* لكن وبعد تلاشي المسيحية,, سرعان ما عجزت العلمانية عن الاجابة على اسئلة الانسان التي كان الدين يقدم لها الاجابات,, فالقناعات العقلية اصبحت مفتقرة الى اليقين,, وغدت الحداثة العلمانية غير واثقة من نفسها، بل وتفكك انساقها - العقلية والعلمية - عدمية ما بعد الحداثة,, فدخلت الثقافة العلمانية في ازمة، بعد ان ادخلت الدين المسيحي في ازمة,, فالانهاك الذي اصاب المسيحية اعقبه اعياء اصاب كل العصر العلماني الحديث,, وتحققت نبوءة نيتشة ]1844 - 1900م[ عن افراز التطور الثقافي الغربي لأناس يفقدون نجمهم الذي فوقهم، ويحيون حياة تافهة ذات بعد واحد لا يعرف الواحد منهم شيئاً خارج نطاقه ,, وبعبارة ماكس فيبر ]1864 - 1920م[: لقد اصبح هناك اخصائيون لا روح لهم وعلماء لا قلوب لهم[!.
* ولأن الاهتمام الانساني بالدين لم يتلاش بل تزايد,, وفي ظل انحسار المسيحية انفتح باب اوروبا لضروب من الروحانيات وخليط من العقائد الدينية لا علاقة لها بالمسيحية ولا بالكنيسة - من التنجيم,, الى عبادة القوى الخفية,, والخارقة,, والاعتقاد بالأشباح,, وطقوس الهنود الحمر,, وروحانيات الديانات الآسيوية,, والاسلام الذي اخذ يحقق نجاحاً متزايداً في المجتمعات الغربية.
لقد ازالت العلمانية السيادة الثقافية للمسيحية عن اوروبا,, ثم عجزت عن تحقيق سيادة دينها العلماني على الانسان الاوروبي، عندما اصبح معبدها العلمي عتيقاً !,, ففقد الناس النجم الذي كانوا به يهتدون: وعد الخلاص المسيحي,, ثم وعد الخلاص العلماني!,.
***
تلك بعض عبارات الدكتور كونزلن التي قدمها في بحثه عن عملية العلمنة والمسيحية الغربية ,, ولو ان الكنائس الغربية لم تخن نصرانيتها لركزت جهودها ضد العلمانية في بلادها، وعملت على اعادة تنصير اوروبا بدلاً من هذه الحرب التي تشنها لتنصير المسلمين,.
ولو ان هذه الكنائس اخلصت لمنظومة التدين - مطلق التدين - وللقيم الايمانية - مطلق القيم الايمانية - لسعدت بصمود الاسلام في وجه العلمانية ونجاة المسلمين من هذا الذي احدثته العلمانية بالانسان الغربي والمجتمعات الغربية,, لكن الغريب والعجيب، ان هذه الكنائس لم تصنع شيئاً من ذلك، وانما صنعت العكس فزاد سعار حقدها على الاسلام لأنه قاوم ولا يزال يقاوم العلمانية محافظاً على سلطان الدين والتدين في قلوب المسلمين,, فكأن هذه الكنائس تريد ان تزرع في الجسم الاسلامي ذات الجراثيم القاتلة التي قتلت تدين المجتمعات الغربية!,.
بل إن هذا الصمود الاسلامي - وفي ذلك مدعاة للغرابة والاستغراب - هو الذي جعل دوائر القرار الاستراتيجي في الغرب، تعلن - بعد انهيار المنظومة الشيوعية - ان الاسلام هو العدو الذي حل محل امبراطورية الشر الشيوعية,, لأنه - من بين كل الثقافات غير الغربية - المستعصي على العلمنة والذي يستيقظ ليقدم لأمته مشروعاً للنهضة ملتزماً بمعايير الدين وقيم الايمان.
وعن هذه الحقيقة تحدثت مجلة شؤون دولية International Affains فقالت: لقد شعر الكثيرون بالحاجة الى اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفيتي,, وبالنسبة لهذا الغرض كان الاسلام جاهزاً في المتناول,, فالاسلام رافض لأي تمييز بين ما لله وما لقيصر,, وهو لا يسمح لمعتنقيه ان يصبحوا مواطنين في دولة علمانية,, انه استثناء مدهش وتام جداً من النظرية التي يعتنقها علماء الاجتماع والتي تقول: ان المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُحل العلمنة محل الايمان الديني,, فلم تتم اي علمنة في عالم الاسلام، وسيطرة هذا الدين على المؤمنين به هي سيطرة قوية، بل انها اقوى الآن مما كانت عليه من مائة سنة مضت,, انه مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم السياسية - راديكالية,, وتقليدية,, وبين بين -,, وعمليات الاصلاح الذاتي تتم في العالم الاسلامي باسم الايمان الديني وليس على انقاض هذا الايمان,, ولان الاسلام هو الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحدي فعلي وحقيقي للثقافة العلمانية الغربية كان من بين الثقافات الموجودة في الجنوب الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة !.
فرفض الاسلام والمسلمين للعلمنة - ومن ثم التبعية للنموذج الغربي - هو السبب الجوهري لاعلان الغرب ان العدو الجديد - الذي حل محل الشيوعية - هو الاسلام,.
وهو السبب الذي جعل الحوارات الدينية - مع الكنائس الغربية - حوارات طرشان!,, لان هذه الكنائس بدلا من ان تتعلم من الاسلام كيفية الصمود ضد العلمانية، نراها تستهدف حتى من وراء حواراتها الدينية - ليس فقط علمنة المسلمين - كما تريد الدوائر العلمانية الغربية - وانما طي صفحة الاسلام من الوجود!,.
د, محمد عمارة

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
الطبية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved