انفجار جبار داخل نفسه يصيبه ببوادر اضطراب، ومشاعر اغتراب مفاجئة، واشعة الشمس البرتقالية من حوله تمتزج ببريق اللون الفضي للنهار, لم يفلح في الامتزاج او الاندماج بها رغم جمالها وسخاء عطائها, وكانت ذراعاه ممدودتين بجريدته المبسوطة امامه، وهو يتأمل صورة فضائية ذات شكل ساحق رهيب، عبارة عن جهاز معدني ضخم، يغطي مساحة كبيرة من فضاء الكون البعيد، له جذع قوي عملاق، مليء بأطراف كثيرة، ذات اشكال مثيرة، وقواعد متضخمة لامعة ملساء، ملحق به مجموعة من ابراج افقية ورأسية شامخة، صارخة بجبروت الصمت المهيب، تتصل به مجموعة من اجسام علوية معدنية، كأنها طيور خرافية مذهلة، برؤوس وذيول صاروخية مدببة، وشكل الفضاء الواسع من حوله عميق، ورهيب، ممتد الى مالا نهاية، ومصبوغ بلون الليل الفضائي، المنقوش برعشات النجوم المتوهجة بالضوء.
ظل يتأملها بنظرات جامدة، بذهول شديد، في صمت ساحق طويل وممدود, امتلأ رأسه فجأة بوجه استاد مادة التاريخ، وصوته المهزوز، المنبعث من سماعات الاذن يتردد بقوة في فراغ القاعة الفسيحة, دار سؤال مهم في رأسه، كان يود توجيهه اليه,, ورفع ذراعه، طالباً الاذن بالسؤال, ظل المدرس منشغلاً بحديثه عن امجاد السلف دون اشارة من قريب او بعيد الى علاقتها بحاضر ومستقبل زمننا الراهن، المليء بانقلابات واختراعات مذهلة، تتجدد وتتزايد كل يوم, لم يلتفت الى ذراعه المرفوعة، لكنه شعر بتصميمه على طرح سؤاله، فصاح فيه ناهراً:
- انت هناك,, اخفض يدك!
ثم قال بنظرات غاضبة:
- لا مجال لاي سؤال اثناء شرح الدرس!
احس بنظرات زملائه المستريبة من حوله تتجه نحوه، وهو يخفض ذراعه في خجل وانقباض, ساحت نظراته في ملامح وجوههم للحظات, احس بان اكثرهم غير مبالين بشرح الدرس، ربما لعدم ارتباطه بمشاكل حاضرهم وطموحات مستقبلهم.
بعد انتهاء الحصة، لملم المدرس اوراقه من فوق المنصة، وهبط سريعاً، متوجهاً نحو الباب القائم عند مؤخرة المنصة، كأنه يهرب من شيء غامض يطارده، فنهض راكضاً خلفه، حتى استوقفه عند نهاية السرداب المؤدي للخروج من المبنى.
- دكتور, دكتور,.
اجابه، وهو يتوقف بنفاد صبر:
نعم؟!
عندي سؤال مهم!
تفضل:
قال وهو يلتقط انفاسه:
- لماذا تنفصل ولا تتصل امجاد اجدادنا بحاضرنا ومستقبلنا؟!
لوى شفتيه في امتعاض، وهو يقذف برأسه للخلف، صائحاً في وجهه:
امن اجل ذلك تستوقفني وتعطلني؟!
قال له بلهجة صارمة:
- لا تشغل رأسك باي امور خارج المقرر!
بعثرته عاصفة الكلمات في سراديب مبنى الجامعة، وقذفت به كالطريد في الشوارع وفوق الارصفة، حتى جلس على المقهى، يحاول استجماع احاسيسه المبعثرة.
سحب آخر رشفة من فنجان قهوته، ثم راح يتأمل وجوه الجالسين حوله, وكان بعضهم منشغلين باحاديثهم باصوات هامسة او زاعقة، وبعضهم يجلسون في صمت، ربما يتأملون مصائرهم في عالم الغيب، واخرون يلعبون الورق او النرد, شعر بحزن عميق، وهو يتأمل ملامح وجوههم, يقرأ فيها آثار استسلامهم للهروب، ربما من اسئلة كثيرة غامضة، ولا يجدون لها اجوبة.
عاد للامساك بجريدته باحاسيسه الثائرة نفسها، وهو يعاود التحديق في الصورة الفضائية بكل اعماقها السابحة في اعالي الكون, قرأ بضع كلمات مخطوطة تحتها تقول:
محطة فضاء للدول المتقدمة,, ومستقبل رائع جديد! .
هاجت نفسه باحلام كثيرة مبهرة، وافكار جميلة متفجرة، احس بصعوبة تحقيقها، او المنافشة مع احد حولها, تذكر وجه استاذ التاريخ مرة اخرى، وهو يتلقى منه ما يقوله دون مناقشة, وعاد يتأمل وجوه المحيطين به، ويشعر بهم كأنهم هاربون من مشكلات كثيرة، ربما لا يجدون من يتناقشون معه حولها، اغلق الجريدة في هدوء ملغوم، وهو يشعر بأنها هي الاخرى لا تقبل التفاهم، وعليه ان يتلقى منها ما تقوله دون مناقشة.
لوى عنقه فوق صدره في استرخاء حالم، بمشاعر ثائرة هادرة بالامنيات, تمنى ان يرى روحه سابحة بين نبضات النجوم المتوهجة بالضوء في فضاء الكون، عله يأتي بشيء من هناك لتفجير احشاء الخفاء البعيد، الهادر بمستقبل رائع جديد.
محمد علي وهبي