الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الانبياء وامام المرسلين، وبعد
الفراغ نعمة من اعظم نعم الله عز وجل، في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من رواية عبدالله بن عباس رضي الله عنه، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) ففي هذا الحديث تذكير للمسلم بعظم شأن الفراغ، وحث له على استغلاله، وما اكثر الذين يفرطون في هذه النعمة، وصدق صلى الله عليه وسلم حيث قال: (مغبون فيهما كثير من الناس) اي ان الذين يوفقون في استغلال هاتين النعمتين قلة، اقل الناس هم الذين لا يغبنون، واما الكثرة فالغبن من نصيبهم بسبب تفريطهم، ونظير ذلك قول الله عز وجل: (وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين).
ومن لطائف هذا الحديث الذي يحث على استغلال الفراغ، ان فيه تلميحا للمسلم، بانه كالتاجر، وان الصحة والفراغ كرأس المال له، فاذا احسن استغلال رأس المال فانه ينال الربح باذن الله تعالى، واما اذا لم يحسن ذلك، وانما عمل على اضاعته، وعدم المبالاة فيه، فان مآله الى الخسارة والندم، ومن ثم الغبن حليفه لا محالة.
وجدير بالمسلم الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بانه كيس فطن، ان يفطن لهذه القضية المهمة، قضية الفراغ، والمسلمون في هذه الايام يعيش اكثرهم هذه النعمة - نعمة الفراغ - بمناسبة الاجازة الصيفية - التي يتمتع بها اكثر من نصف المجتمع، وخاصة الشباب، وهذا مما يزيد الامر خطورة، ويجعل الحريص يده على قلبه خوفا من ذلك الفراغ، ومما سيحدث فيه، ومما سيشغل به، وكما قال الشاعر:
ان الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة |
فاذا اجتمع شباب وفراغ، ووافقا ضعف ايمانا وسوء تربية، فعلى الاخلاق السلام، فلا تسل عما ينتجه ذلك من فساد وانحراف وضلال واجرام، ولذلك علينا - معشر المسلمين - ان نهتم بهذه القضية وان نتعاون على استغلال الفراغ، ولذا اذكر نفسي واخواني ببعض الامور الهامة التي ينبغي للمسلم ان يقضي بها وقت فراغه، وهي كالتالي.
اولا: تلاوة كتاب الله تعالى، فهي خير ما يقضي به المسلم وقته لاسيما في هذه الاجازة، فان لتلاوة كتاب الله تعالى فضلا عظيما واجرا جزيلا، يقول الله تعالى: (ان الذين يتلون كتاب الله واقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله انه غفور شكور) يقول قتادة (رضي الله عنه) عن هذه الآية: هذه آية القراء.
وقد ربط الله عز وجل بين تلاوة القرآن والايمان به، فقال عز وجل: (الذين اتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن من اهل الايمان بالاترجه - وهي ثمرة طيبة الطعم، طيبة الرائحة ، حسنة اللون - فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الاترجة، ريحها طيب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لاريح لها، وطعمها مر)، فينبغي للمسلم ان يستغل وقته بتلاوة كتاب الله عز وجل وفي الحديث الذي رواه الامام مسلم - رحمه الله - عن ابي امامة الباهلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرأوا القرآن فانه يأتي يوم القيامة شفيعا لاصحابه).
ثانيا: طلب العلم، والمقصود بالعلم العلم الشرعي، حيث ان طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة، وما احوجنا لذلك، وما احوج المسلمين للتفقه في امور دينهم، ومعرفة احكام عبادتهم، ليعبدوا الله على بصيرة وعلم، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ولم يأمر الله جل جلاله احدا بطلب الزيادة من شيء الا من العلم فقال سبحانه آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك: (وقل ربي زدني علما) وفي الحديث الحسن عند الترمذي من رواية ابي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها الا ذكر الله تعالى وما والاه وعالما او متعلما).
وقد يتساءل متسائل فيقول: اين العلماء من بعض الاماكن التي لا يوجد فيها علماء؟ فأين يتعلم اهل تلك الاماكن؟ اقول: صدقت, انها مسؤولية عظيمة، يتحملها كثير من طلبة العلم الذين تزج بهم جامعاتنا المباركة، فان الناس بحاجة لمن يعلمهم اهم امور دينهم، فقد وجد من لا يحسن الفاتحة، ومن لا يتقن الوضوء، ومن لا يجيد الصلاة - اي ورب الكعبة - فأين الذين يتنافسون على الوظائف، ويتزاحمون على المراتب؟ اننا نذكرهم - والذكرى تنفع المؤمنين - بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمه الا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه ابو داود باسناد صحيح.
واما انت يامن تسأل عن العلماء، فينبغي لك ان ترحل في طلب العلم، وان تسعى في تحصيله، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع) وقال صلى الله عليه وسلم : (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا الى الجنة).
ومن الأمور الهامة التي يحتاج اليها الناس، وهي مسؤولية طلبة العلم: الدعوة الى الله تعالى، وهذه الاجازة فرصة سانحة، وهذه مكاتب الدعوة فاتحة ابوابها لمن اراد ان يدعو الى الله تعالى، والله يقول: (ومن احسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين)، والدعوة الى الله عز وجل على بصيرة وعلم هي سبيل النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين، يقول سبحانه مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين)، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم).
ثالثا: شد الرحال الى بيت الله الحرام، والى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لاتشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الاقصى), فالعمرة والزيارة من افضل ما يستغل به الوقت، ففي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فان المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبيث الحديد) وفي الحديث الذي رواه ابو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة الى العمرة كفارة لما بينهما) فرحلة مباركة في هذه الاجازة الى بيت الله الحرام، والى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: وفد الله ثلاثة: الحاج، والمعتمر، والغازي، اولئك الذين يسألون الله، فيعطيهم سؤلهم.
ولاينسى فضل الصلاة في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي المسجد الحرام الصلاة عن مائة الف صلاة، وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عن ألف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام.
رابعا: صلة الرحم: فصلة الرحم لها شأن عظيم، ينبغي للمسلم ان يتفطن له، وان لا يغفل عنه في كل وقت، لاسيما في هذه الاجازة فصلة الرحم سبب لطول العمر وكثرة الرزق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من سره ان يبسط له في رزقه وان ينسأ له في اثره فليصل رحمه) وصلة الرحم سبب لصلة الله - جل وعلا - يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ان الله تعالى خلق الخلق حتى فرغ منهم، فقامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، اما ترضين ان اصل من وصلك، واقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك).
وعلى المسلم أن يحذر من قطيعة الرحم؛ فان للقطيعة شؤما عظيما، فهي سبب للعنة الله، وعقابه يقول الله - جل وعلا -: (فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الارض وتقطعوا ارحامكم * اولئك الذين لعنهم الله فاصمهم واعمى ابصارهم) وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لايدخل الجنة قاطع) يعني قاطع رحم.
واعظم القطيعة قطيعة الوالدين, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا انبئكم بأكبر الكبائر - ثلاث مرات - قال من عنده من الصحابة: بلى, قال صلى الله عليه وسلم : (الاشراك بالله، وعقوق الوالدين) فجعل صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين بعد الاشراك بالله، فعلى المسلم ان يحذر من القطيعة، وان يصل رحمه، وهذه الاجازة مناسبة جيدة لذلك.
هذه العبادات الجليلة، تلاوة كتاب الله، وطلب العلم الشرعي، والدعوة الى الله، والعمرة، وصلة الرحم، خير ما نستغل به الاجازة، بل خير ما يستغل به العمر، فليحرص المسلم على وقت فراغه، وليستعمله بطاعة الله ورضوانه, اسأل الله ان يوفقنا جميعا الى ذلك، وان يرزقنا استغلال اعمارنا في طاعته، وان يجنبنا معصيته انه سميع مجيب، وصلى الله علي نبينا محمد.