Friday 30th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 17 ربيع الثاني


كلمة رثاء وعزاء في وفاة الملك الحسن الثاني رحمه الله
فقدنا زعيماً مفكراً أعاد للحضارة العربية والإسلامية مكانتها في مواجهة أوروبا
حماد بن حامد السالمي *

** فقدنا بالامس زعيماً عربياً اسلامياً كبيراً هو الملك الحسن الثاني، ملك المملكة المغربية الشقيقة، رحمه الله واسكنه فسيح جناته، وعوض اهله وشعبه وامته العربية والاسلامية خيراً في فقده، فقد كان رجلاً فريداً في صفاته الشخصية والخلقية، وحاكماً حكيماً في عصر قل فيه الحكماء من الحكام، وقائداً رصيناً يستمد رزانته ورصانته من اصله العربي العريق، ومن نسبه وبيته العلوي الشهير بالكفاح والتضحيات من اجل الحق والاستقلال، فوالده محمد الخامس رحمه ا لله في طليعة المناضلين للاستعمار في العصر الحديث وهو من وضع المغرب على طريق الحرية والاستقلال والكرامة، ليأتي ابنه الملك الحسن الثاني مكملاً هذا المشوار النضالي، وبانياً للدولة الحديثة في اقصى مغرب الوطن العربي.
** لقد هزني نبأ وفاة هذا الملك الهمام، لانه نجم لامع، وشهاب ساطع، ليس في سماء بلده المغرب وشمال افريقيا وحدها، ولكن في مشرق الوطن العربي ايضاً، فقد عرف الملك الحسن الثاني رحمه الله من خلال حضوره القوي في المحافل العربية والاسلامية والدولية، وطروحاته السياسية المدعمة بالحجج المقنعة، وكان يشدني اكثر وهو يتحدث بلغة عربية فصحى لا تعرف العجمة التي غالباً ما تتسلط على السنة الخطباء والمتحدثين من الساسة العرب في هذا الزمان، وكان يتحدث بلسان عربي فصيح، يعرف طريقه الى الاستشاهد بآيات القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وحكمة وشعر العرب، فالملك الحسن الثاني رحمه الله لم يكن ملكاً وحاكماً فقط، وانما كان عالماً ومعلماً، ونموذجاً يحتذى به في تمثيل الحضارة العربية، وتكريس مفرداتها وصورها في الحياة المعاصرة، وقد تجلى هذا الاهتمام منه رحمه الله في مناح كثيرة طغت على سلوكه الشخصي، وعلى السلوكية العامة للشعب المغربي بكافة، فالندوة الفقهية الفكرية طيلة شهر رمضان التي يحرص على ادارتها في داره حتى تسمت باسمه الندوة الحسنية ، واحياء تراث العرب في الاندلس من مخطوطات وزخارف وفنون، وتشييده لاكبر مسجد يقام في الكرة الارضية في الدار البيضاء بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، ورئاسته للجنة القدس، واستضافة بلاده للمؤتمرات الاسلامية، لدليل ساطع على نقاء سريرته، وصفاء عروبته، ونزوعه للاسلام ديناً وحضارة ومنهج حياة، وكنت قد زرت في سنوات فارطة عشرات من المدن والقرى والارياف المغربية من اغادير ومراكش جنوباً حتى تطوان والفنيدق وسبتة ومليلة شمالاً وفاس ومكناس شرقاً ووقفت على كثير من الاتجاهات والتكوينات الفكرية والثقافية، ولقد ادهشني في الشعب المغربي اقباله على العمل الجاد المثمر على كافة الصعد، فهو لا يعرف التواكل ولا الاتكال، وما وصل اليه من تقدم وتطور ونمو لم يصل اليه اي بلد مجاور له، رغم ان المغرب كان موزعاً بين بلدين استعماريين هما فرنسا واسبانيا حتى منتصف الخمسينيات الميلادية، هذه الروح الكفاحية المنتجة لم تكن لتوجد في بلد تعداد سكانه اكثر من ثلاثين مليون نسمة، ويفتقر الى المصادر الطبيعية مثل النفط والغاز مثلاً، لو لم يتوفر على استقرار سياسي، وعدالة اجتماعية، وانفتاح ثقافي واسع طيلة السنوات التي حكم فيها الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، فالمغرب اليوم في مقدمة الدول النامية زراعياً وصناعياً، وقد سبقت غيرها من الدول العربية المستعمرة من قبل فرنسا في العودة الى العربية لغة وتراثاً وحضارة واصالة، الى جانب عدم تحرجها من التعامل مع الثقافة الغربية، فالشعب المغربي يتحدث الى جانب لغته الام العربية الفرنسية والاسبانية والبربرية، والمرتكز الذي مثله التراب المغربي في عبور الثقافة العربية والاسلامية الى الاندلس ثم اوروبا، اكسب الشعب المغربي ثقة متزايدة في التعاطي مع الشمال الاوروبي، في كافة العلائق التي عادة ما تكون بين الدول، وفي مقدمتها العلائق الثقافية التي تساعد على التطبيع بين الشعوب، حتى وصلت المغرب في السنوات الاخيرة الى منصب شريك اساس لمنظومة السوق الاوربية.
* ذهب الملك الحسن الثاني رحمه الله، ففقد المغاربة والعرب والعالم كله زعيماً محنكاً، يمتاز بالذكاء والفطنة والهدوء، ويدير مملكته بسياسة النفس الطويل الذي يكسب الرهان في آخر كل جولة، لقد تعرض المغرب في عهده الى تحديات كبيرة، وهبت عليه عواصف من كل الجهات، ولولا حنكة الملك وبعد نظره، لتعرضت بلاده الى مصاعب وخيمة، فقضية الصحراء وما حملت معها من افرازات اقليمية ودولية، واجهها رحمه الله بشجاعة القائد، وقيادة الشجاع، والتماس مع الجزائر اوشك اكثر من مرة على الانفجار، ولكن الحسن الثاني ظل ينظر الى الشعب الجزائري على انه في منزلة الشعب المغربي، اخوة متجاورون لا تفرقهم خطوط وهمية بين البلدين، وظل طوال حياته رحمه الله يتعاطى مع ملف سبتة ومليلة بكل ما اوتي من حكمة وبعد نظر، ذلك ان ركوب موجة الشعارات، وتفجير الموقف مع اسبانيا سياسة خاسرة في نهاية المطاف، وقائد يملك الخبرة ويقدر مصلحة بلاده وامته لا يمكن ان يغامر مع دولة تدعمها كل اوروبا، ولكن حق المغرب في كامل ترابها وارضها ظل حقاً مشروعاً، ومطلباً شعبياً وقومياً لا يفرط فيه احد.
** هكذا هو رحمه الله، فذ في الرأي، مناصر للحق مهما كان مرا، ونحن في المملكة والخليج، لا يمكن ان ننسى موقفه المناصر للحق والعدالة عندما اجتاح العراق دولة الكويت واحتلها، ثم تداعت امم الارض كافة لردع المعتدي واعادة الحق الى اصحابه، وعندما تخاذل البعض من العرب، وتآمر البعض الآخر وقف الملك الحسن الثاني رحمه الله في صف الحق، وتحمل بشجاعة وشفافية آثار الدعاية العراقية ومغالطاتها، والتي استهدفت من ضمن ما استهدفت، الشارع المغربي البعيد جغرافياً عن ميدان الاحداث، هذا الشعب الذي عرف بمواقفه المشرفة مع قضايا الامة العربية، يتفاعل ويدعم ما يبني في الصف العربي على الدوام.
** اعلم انني مهما كتبت، فلن افي الملك الراحل حقه - رحمه الله- وان هذا المصاب، هو مصاب كل العرب الذين عرفوا الحسن الثاني زعيماً له مكانته في هذا العالم، بما اوتي من عقلية خصبة منفتحة على كل الاتجاهات، ما اكسبه حب شعبه، وتقدير العالم اجمع، فهو من القلائل الذين ساهموا في اطفاء الحرائق، ونشر السلام، ونصرة المظلومين على وجه الارض، والملك محمد السادس بن الحسن هو سليل المجد العظيم الذي صنعه والده، وهو تلميذ المدرسة الحسنية التي امتدت اكثر من نصف قرن ، تبني وتشيد وتعطي وتعلم الكثير مما يستفاد منه في ادارة الحكم والسياسة والشعب، الشعب الابي الكبير بالتفافه حول قيادته، وبامكاناته وتكويناته الجغرافية والحضارية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، التي جعلت منه انموذجاً في الاستقرار والرخاء والعيش الرغيد.
** لقد فقدنا بحق، زعيماً مفكراً استطاع بحكمته المعهودة، وحنكته الموروثة، بناء الثقة للحضارة العربية والاسلامية من جديد في مواجهة اوروبا، انطلاقاً من التراب المغربي الذي شكل قبل اكثر من اثني عشر قرناً، جسراً ومعبراً لهذه الحضارة الى الغرب كله.
اسأل الله له الرحمة والغفران,, انه سميع مجيب.
* مدير فرع مؤسسة الجزيرة الصحفية بالطائف

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
أفاق اسلامية
تقارير
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved