ولد ونشأ بمدينة قولة من ثغور مقدونيا موطن الاسكندر الاكبر في سنة 1769م، وكان ابوه ابراهيم اغا رئيس الحرس المنوط به خفارة الطريق ببلده، وله من الابناء سبعة عشر ولداً لم يعش منهم سوى محمد علي ، ومات عنه صغير السن يتيم الابوين لايتجاوز الرابعة عشرة من عمره فكفله عمه طوسون، ثم توفي عمه بعد ذلك بمدة يسيرة، فكفله ضابط صديق لوالده، فلما بلغ مبلغ الرجال، ولم يكن قد تلقى تعليماً اولياً او عالياً انتظم في سلك الجيش، وتدرج في سلك الجندية حتى وصل الى مرتبة قائد فوج بلوك باشى .
وقد زوجه متصرف قوله بقريبة له مطلقة ذات ثروة واسعة، وهي التي انجبت له ابراهيم وطوسون واسماعيل، وتفرغ لتجارة الدخان فربح منها، لكنه لم يلبث ان عاد الى الحياة العسكرية، فعندما شرع الباب العالي في تعبئة جيوشه لمحاربة الفرنسيين واخراجهم من مصر، اصدر اوامره الى متصرف قوله ليقدم مالديه من جنود, فألف كتيبة قوامها ثلاثمائة جندي انتظم محمد علي في سلكها، وجاءت هذه الكتيبة على ظهر العمارة التركية التي رست على ساحل ابو قير بقيادة حسين قبطان باشا في ذي القعدة 1216ه/مارس 1801م.
جاء محمد علي الى مصر، فوجد الميدان خصباً لظهور مواهبه، وشارك في المعارك الاخيرة التي دارت رحاها بين الانجليز والاتراك من جانب والفرنسيين من جانب آخر، وظهر اسمه في هجوم الجيش التركي على الرحمانية التي كان يدافع عنها الجنرال لاجرانج، وناط به حسين قبطان مهاجمة القلعة واحتلالها فأسعده الحظ في مهمته بانسحاب الفرنسيين من قلعة الرحمانية فاحتلها دون عناء.
وقد شهد محمد علي انتهاء عهد الحملة الفرنسية ، وبقي في مصر وارتقى في غضون ذلك الىمرتبة كبار الضباط،فنال رتبة رئيس ألف بينباشى قبل جلاء الفرنسيين، ثم رقي الى رتبة لواء سرجشمه في منتصف 1216ه/ اواخر 1801م، واخذ يرقب تطور الصراع بين القوى التي كانت تتنازع السلطة، ووضع لنفسه خطة تدل على اصالة رأيه وبعد نظره، وهي ان يتقرب الى الشعب ويستميل اليه زعماءه، ويستعين بهم للوصول الى قمة السلطة.
عمل محمد علي وامامه سلطتان, يجب ان يتخلص منهما واحدة بعد الاخرى وهما: المماليك، وسلطة الوالي العثماني: ممثل حكومة الاستانة التي ارادت ان تستعيد ماكان لها من نفوذ وسلطان على ولايتها القديمة، ثم كانت امامه عقبة اخرى الجند: الارناؤوط الالبان والدلاة وغيرهم، فاستطاع بدهائه وصبره وذكائه ان يضرب كل سلطة بالاخرى، وان يشق لنفسه طريق النجاح.
ففي اعقاب جلاء الفرنسيين ثم الانجليز عن مصر في ذي القعدة 1217ه/مارس 1803م، شرع الوالي العثماني خسرو باشا في توطيد سلطته، ودخل في صراع مع المماليك معتمداً على جيش مؤلف من سبعة عشر الف مقاتل موزعين بين العاصمة والمدن الهامة ومعظمهم من الالبان تحت رئاسة طاهر باشا وحسن باشا ومحمد علي باشا، لكنه جيش لانظام له ويميل عناصره ورجاله الى التمرد والعصيان، وقد جرت عدة وقائع عسكرية بين الجيش العثماني والقوات المملوكية بين عامي 1217 و1218ه/2-1803م، مني فيها الاتراك بالهزائم وهاجم المماليك بقيادة البرديسي المنيا واحتلوها، وسيطروا على حركة الملاحة النهرية بالنيل، ومنعوا وصول الغلال من الصعيد الى القاهرة والوجه البحري.
استدعى خسرو باشا قوات طاهر باشا ومحمد علي الى القاهرة، وعزم على ارسالهم الى الصعيد لقتال المماليك، وعندئذ رأى محمد علي ان الفرصة سانحة للتخلص من خسرو، فأوعز اليهم ومعظمهم من الارناؤوط للمطالبة برواتبهم المتأخرة، وحرضهم على التمرد حتى تمكن من اسقاطه وطرده من القاهرة في 10 محرم 1218ه/اول مايو 1803م.
اختار رؤساء الجند طاهر باشا قائمقاماً الى ان تحضر له الولاية او يعين وال جديد، ولكن ما ارتكبه طاهر باشا في حق الكثيرين من ظلم، واطلاقه العنان لجنوده الالبان من اعمال سلب ونهب عجل بنهايته فثار عليه رجال الانكشارية وقتلوه في 4 صفر 1218ه/26مايو1803م، وبادروا الى تعيين واحد منهم هو احمد باشا والي المدينة المنورة، وكان موجوداً آنذاك بالقاهرة فولوه الحكم، وأرسل احمد باشا من ناحيته يستميل محمد علي الذي احتل القلعة، واصبح بعد موت طاهر باشا قائد الجنود الالبان وعددهم نحو اربعة آلاف مقاتل.
التزم محمد علي الحيدة ظاهراً، وان لم يبتعد عن حركة الالبان التي انتهت بعزل خسرو باشا، وظل متظاهراً بها اثناء ولاية طاهر باشا يرقب الحوادث عن كثب، وينتظر الفرصة السانحة ليحقق مايصبو اليه فلما عين الانكشارية احمد باشا خرج عن حيدته، فلم يرض بهذا التعيين وتحالف مع الامراء المماليك على اقصائه وترك السلطة لهم، ليضرب الاتراك بالمماليك ، ويتخلص من الفريقين معاً، ويصبح الطريق امامه ممهداً لاعتلاء الحكم، وقد حدث له ماتمناه،وتحقق له ما اراد.
بالغ محمد علي في التودد الى المماليك، وسلمهم القلعة، وترك لهم السلطة ظاهراً حتى يتحملوا تبعة مايقترفونه من اعمال، واعد بالاشتراك معهم حملتين الاولى: على دمياط وانتهت بالقبض على خسرو الباشا الهارب، وارساله سجيناً الى القاهرة، والثانية: على رشيد فاحتلوه في ربيع الثاني 1218ه/اغسطس 1803م, لكنه رغب عن الزحف الى الاسكندرية لانه رأى ان استيلاء المماليك عليها يثبت اقدامهم ويقويهم وهو يريد اضعافهم ، فعاد برجاله الى القاهرة دون ان يخبر حليفه البرديسي الذي اضطر الى العودة، والعدول عن حصار الاسكندرية، واختار الحيلة بدلاً من السلاح لقتل الوالي الذي كان قد بعث به الباب العالي علي باشا الجزائري في شوال 1218ه/يناير 1804م، وبذلك تخلص محمد علي من احدى القوتين، ولم يبق امامه الا المماليك، فتخلص منهم حين تركوا ليتحملوا مساوىء الحكم، فاستهدفوا لثورة الاهالي التي اقصتهم عن الحكم.
وباقصاء المماليك بات الطريق ممهداً امام محمد علي، لكن الرجل الداهية آثر الانتظار، واختار خسرو باشا الوالي القديم الذي كان سجيناً منذ ثمانية اشهر ليعيده الى منصبه، ويتولى هو ادارة شئون البلاد باسمه، وبذلك ازداد تعلق الناس به لما رأوا فيه من التعفف وعدم الرغبة في الحكم، واستعاد ثقة الباب العالي، وبرهن على انه لم تكن له يد في الفتن التي ادت الى عزل خسرو باشا، وأودت بحياة علي باشا الجزائري، فلما عارض اتباع طاهر باشا تعيين خسرو ثاروا عليه وعزلوه، وبعثوا به الى رشيد ومنها الى الاستانة، وافقهم محمد علي على ذلك، ولم يعترض لكنه اصر على ان ينصب احد الباشاوات الاتراك، وسعى في تعيين خورشيد باشا والياً على مصر، فاجتمع الشيوخ وقادة الجند، واجمعت آراؤهم على تعيينه والياً وعينوا محمد علي قائمقاماً ليتدعم موقفه اكثر فاكثر ، ويزداد قرباً من السلطة في انتظار الفرصة المواتية لاعتلاء سدة الحكم.
فلما ساءت سيرة خورشيد باشا، وكثرت مظالمه ثار عليه الاهالي،وخلعه وعندئذ طلب العلماء والمشايخ من محمد علي ان يقبل منصب الولاية وألحوا عليه، ونهض السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وألبساه خلعة الولاية في 13 صفر 1220ه/ 13مايو 1805م، ثم اتاه فرمان تثبيته والياً على مصر في 11 ربيع الثاني 1220ه/ 9مايو 1805م.
وقد استطاع محمد علي بما اوتي من دهاء وسعة حيلة وهمة عالية، أن يذلل العقبات التي اعترضت طريقه في السنوات الاولى من حكمه، وتغلب على دسائس الاتراك والانجليز ومساعي المماليك في وقت كان لايزال فيه امياً، ولم يتح له تعلم القراءة والكتابة الا بعد ان تجاوز الاربعين.
وبعد ان تبوأ محمد علي حكم مصر، وتخطى العقبات الاولى من حكمه، واعاد تنظيم الجيش وفقاً للاسس الغربية الحديثة دون ان يصطدم الجند او يكون هدفاً لتمرداتهم، ووجه ضربة قاصمة للنظام القديم، وانشأ على انقاضه اقتصاداً زراعياً ونظاماً سياسياً يقوم على تركيز موارد الولاية والسلطة في يده، ويستهدف التوسع صوب الشرق والجنوب لنقل مصر من مجرد ايالة عثمانية بسيطة الى باشوية وراثية, لكن طموح الرجل الى العظمة، والى الاقتداء بالفاتحين الكبار امثال الاسكندر الاكبر،ونابليون جعله لايقيس امكانياته والظروف الدولية بمقياسها الحقيقي، فجازف بالصدام مع السلطنة العثمانية وهي وقتئذ دولة الخلافة، والملاذ الاخير في وجه الاخطار الخارجية، وبدلاًمن ان يكون عامل قوة يضاف اليها، صار معول هدم في كيانها الذي بدا عليه اعراض الضعف والهرم، ثم بالوقوف في وجه الدول الاوروبية التي تصدت له، وقضت على قوته العسكرية التي انهارت وانهارت معها احلامه، وكان عليه ان يتجنب الاشتباك مع قوى اكبر منه، والدخول في صراع غير متكافىء نتيجته معروفة سلفاً، لكن اهدافه ومراميه البعيدة جعلته يتخلى عن سياسة الحذر والحيطة الى سياسة اخرى قوامها التوسع والصدام، عادت عليه بأوخم العواقب، وكان صعباً على الرجل ان يرى البناء الضخم الذي شيده يتهاوى امام عينيه، ولايستطيع ان يفعل شيئاً، فلم يحتمل الصدمة واصيب بضعف في قواه العقلية، وظهرت عليه اعراض المرض غير مرة، ولم يفلح معه دواء, وعندئذ تولى ابنه ابراهيم باشا ادارة شئون البلاد بدلاً منه في جمادى الاولى 1263ه/ ابريل 1847م, ولكن المنية عاجلته في 14 ذي الة 1264ه/10نوفمبر 1848م، وبعد وفاة ابراهيم ولي الحكم عباس باشا الاول، ومازال محمد علي مصاباً بمرضه العضال الى ان توفي في 13 رمضان 1265ه/ 12 اغسطس 1849م بسراي رأس التين، ونقل جثمانه الى القاهرة ، وشيعت جنازته في احتفال مهيب، ودفن بمسجده بالقلعة لتنتهي بذلك حياة الرجل الكبير، ومؤسس مصر الحديثة، ومنقذ البلاد من الفوضى، وواضع اسس البنى التحتية والاتجاهات التي لاتزال تستند اليها كثير من مؤسساتنا، ومحقق الانجازات التي حولت مجرى تاريخها.
|