Friday 30th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 17 ربيع الثاني


مغنيات العصر العباسي
أحداث موسيقية من العصر الذهبي

,, للمغنيات في تاريخ الموسيقى العربية، دور بارز في اغناء واثراء الحياة الموسيقية العربية وعلى مر هذا التاريخ، كان إبداع تلك المغنيات، لايقل اهمية وقيمة عن ابداع اعلام الغناء العربي من الرجال، هذا ان لم يكن يتفوق عليه في بعض المراحل، اضافة الى تمتعهن بقدر وافر من الثقافة الفنية والادبية، اهلهن لأن يتبوأن مكانة مرموقة في تاريخ الفن الموسيقي والغنائي العربيين .
- اشتهر اسم (شارية) في تاريخ الغناء العربي، كواحدة من اعظم المغنيات المبدعات في العصر العباسي، وهي التي اكتسبت اضافة الى الصوت الجميل، جمال الوجه وكمال الادب مما جعلها تحظى بمكانة مرموقة في قصور الخلفاء والامراء.
-كانت هذه الفنانة مولدة من مولدات البصرة، اشترتها امرأة من بني هاشم حيث قامت بتعليمها الغناء وفنون الادب الى ان حازت وامتلكت خفايا تلك الفنون بمقدرة فنية مذهلة جعلت (ابراهيم بن المهدي) يعجب بها وبفنها اعجاباً عظيماً فقام بشرائها لتبدأ معه رحلة فنية غنية بالابداع الموسيقي والغنائي, وعن (ابراهيم بن المهدي) استاذها القدير، اخذت (شارية) شتى الحانه واصواته، فكانت تأخذ اللحن او الصوت وتلتقط ادق التفاصيل باداء فني مدهش بالفعل، وهو ما يعكس روح التوثب والعطاء الفني الخلاق، وحبها الصادق والقوي لفن الغناء الذي لايعادله اي حب على الاطلاق.
-وكان قد عرض على الموسيقار (اسحاق الموصلي) ان يشترى هذه الفنانة( في زمن كانت المغنيات تباع وتشترى كأي سلعة اخرى) الا انه لم يكترث بها كثيراً حيث لم يعط بها اكثر من ثلاثمائة دينار، فما كان من (ابراهيم بن المهدي) حين عرضت عليه الا ان اشتراها بنفس المبلغ وهو الخبير العالم بالاصوات الجميلة، حيث قام بعرضها على بعض جواريه المغنيات لمدة سنة كاملة كي تأخذ عنهم الالحان التي كان يلحنها لهم، وهكذا كان وبعد سنة وقفت (شارية) امام هذا الموسيقار تشدو وتغني بصوتها الدافىء المفعم بالحنان والعذوبة، عدة اصوات فسحرت لب هذا الموسيقار بأدائها وصوتها الفتان مما كان له عظيم الاثر في نفسية (ابراهيم بن المهدي) الذي اراد ان يغيظ (اسحاق الموصلي) -عدوه اللدود- حيث بعث اليه واسمعه غناء هذه الجارية وعرض عليه ان يبيعها له فقال (اسحاق) آخذها بثلاثة الآف دينار، وهي عندي تساوي اكثر من ذلك فجاوبه (ابراهيم): ان هذه الجارية دفعت بها الآن ثلاثة آلاف دينار هي نفسها الجارية التي دفعت بها سابقاً ثلاثمائة دينار ولم تكترث بها آنذاك, فبقي (اسحاق) فترة من الوقت متحيراً ومندهشاً لحال هذه الجارية وماصارت اليه.
-ومن الحوادث الطريفة التي تحكى عن (شارية) انها كانت في احدى المرات برفقة استاذها (ابراهيم بن المهدي) في مركب (حراقة) على نهر دجلة، وذلك في ليلة جميلة مقمرة، حين تملكها الطرب وحب الغناء فاندفعت بصوتها البديع تغني:
لقد حثوا الجمال ليه
ربوا منا فلم يئلوا
(اي لم ينجوا) فماكان من (ابراهيم) الا ان قام اليها وامسك فاها، وقال لها بلغة ود وتحبب انت والله احسن من (الغريض) وجهاً وغناءً فما يؤمنني عليك؟ امسكي.
-ومن اجمل الاصوات التي غنتها (شارية) في ذاك العصر، صوت كان قد لحنه الموسيقار الخالد (اسحاق الموصلي) وهو:
هل بالديار التي حيَّيتها احد,.
وكان من بين الحضور (حمدون بن اسماعيل) وهو في ضيافة الموسيقار (ابراهيم بن المهدي) فأمرها (ابراهيم) ان تغني هذا الصوت، فغنته بابداع يفوق الوصف، وهنا سأل (ابراهيم بن المهدي) (حمدون) بعد ان رآه في حالة من الطرب والوجد،: هل تريد ان تسمعه بشكل افضل مما سمعته فقال له: هذا مستحيل فاجابه (ابراهيم) اسمع وبعدها احكم فقام (ابراهيم) بغنائه وهو صاحب الصوت القوي الهادر الذي يحكى عنه بانه من اقوى الاصوات التي مرت في تاريخ الغناء العربي كطل حيث غناه بإعجاز فني حقيقي، فقال له (حمدون) متعجباً بانه لم يتوقع ان يسمع غناء بهذا المستوى والرفعة افضل من غناء (شارية) السابق, وهنا عاد (ابراهيم) وساله هل تريد ان تسمعه افضل من المرتين السابقتين وهنا قال (حمدون) ان هذا لايكون ابداً, فضحك (ابراهيم) وقال(لشارية): بحياتي (ياشارية) قوليه واجيلي حلقك فيه، فجاء غناؤها آية زاخرة من آيات الفن البديع وتدل هذه الحادثة على تمكن هذه المغنية من اسرار صنعتها ومدى ابداعها المميز.
-وقد اهتم الخليفة (المعتصم) (بشارية) واراد شراءها من (ابراهيم بن المهدي) بسبعين الف دينار وهو مبلغ كبير ومغر، فابى (ابراهيم) وهو الذي يعلم قيمتها الفنية الحقيقية، وكان حاضرا آنذاك قاضي الكتاب في عصره (سهل الاحول) فعاتبه ولامه على ذلك، فسكت (ابراهيم) على ذلك وبعد ايام دعاه (ابراهيم) الى الاستماع الى غناء هذه الفنانة القديرة وبعد ان استمتع الى ابداعاتها الغنائية المميزة، قال القاضي (لإبراهيم): انني والله سمعت شيئاً كاد ان يذهب بعقلي, وهنا قال له (ابراهيم) يا (سهل) هذه التي عاتبتني فيها في ان ابيعها بسبعين الف دينار، لاوالله ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين الف دينار, وهكذا نرى كم كانت (شارية) اثيرة ومحبوبة عند (ابراهيم بن المهدي) وكم كانت تتمتع بثقافة فنية غنية وصوت مطرب مغرق في العذوبة والجمال، ولهذا قال (ابراهيم) مرة لجاريته (ريق) وهي من الفنانات المبدعات ايضاً وذلك بعد ان تشاجرت مع (شارية): والله ما اجد احداً يخلفك غيرها، واومأ الى حلقه بيده,.
-ومن اشهر تلاميذ هذه الفنانة القديرة (فريدة) تلك الفنانة التي كان لها دور مهم في اغناء الفن العربي بفضل استاذتها (شارية).
-ومن اطرف الحوادث التي اشتهرت بها (شارية) ماجرى معها عند (المعتمد) حين غنته بشعر لمولاها (ابراهيم) وهو:
ياطول علة قلبي المعتاد
الف الكرام وصحبة الامجاد
فقال لها (المعتمد) وقد تملكته النشوة احسنت والله(ياشارية) افما كان منها الا ان جاوبته بذكاء لماح: يامولاي: هذا غنائي وانا عارية (اي تلبس ثوباً عادياً) فكيف لوكنت كاسية؟ وهنا امر لها (المعتمد) بالف ثوب من جميع اصناف الثياب الخاصة التي تليق بفنانة عظيمة (كشارية).
ومن بين المغنيات اللواتي كان لهم دور ملموس في تاريخ فن الغناء العربي، يبرز اسم المغنية ذات الابداع الاصيل، والحضور القوي الجميل(دنانير البرمكية) التي كانت مولاة(ليحيى بن خالد البرمكي) وكانت على قدر كبير من الجمال ورفعة الادب، اضافة الى نبوغها في مجالي الشعروالغناء، وهذا ماجعل الخليفة (هارون الرشيد) يميل ويتقرب اليها ويقدم لها الهدايا والجوائز السخية التي تليق بفنانة مثلها، وكان سخياً بهداياه فوق العادة مما اثار حفيظة (زبيدة) التي شكته الى اهله وعمومته حيث لاموه على هذا الاهتمام الذي لايليق بخليفة، فما كان منه الا ان قال: مالي في هذه الجارية من ارب في نفسها، وانما اربي في غنائها .
-وتعتبر(دنانير) من اوائل الفنانات في عصرها، اللواتي كتبن محاولين تاريخ الغناء العربي، حيث كتبت مؤلفاً يسمى (المجرد في الاغاني) اشتهر كثيراً واخذ به العديد من الاعلام الموسيقي والغناء واعتبر مرجعاً لاغنى عنه في هذا المجال.
-وقد تتلمذت هذه المغنية المبدعة، على ايدي مشاهير الغناء في عصرها، وعلى الاخص استاذتها المبدعة موسوعة الغناء العربي (بذل) التي اعطتها الكثير من المعرفة العلمية والخبرة الفنية، كما اخذت (دنانير) عن فنانين آخرين لهم مكانتهم الرفيعة في عالم الموسيقى والغناء امثال (فليح بن ابي العوراء) و(ابراهيم الموصلي) وابنه (اسحاق) و (ابن جامع) وغيرهم.
-ومن اجمل الاصوات الغنائية التي ابدعت فيه هذه المغنية القديرة، كان صوت عرضته على استاذها موسيقار عصره (ابراهيم الموصلي ) الذي ادبها وعلمها الشيء الكثير فما كان من (ابراهيم) بعد ان سمع غناء هذه الفنانة الا ان قال: احسنت يابنية واصبت واجدت، وقد قطعت عليك بحسن احسانك وجودة اصابتك فائدة المعلمين، اذ قد صرت تحسنين الاختيار وتجيدين الصنعة .
تلك كانت شهادة استاذها، بصوتها العذب وادائها الباهر وهو الذي كان يتأنى كثيراً قبل ان يطلق حكمه في اي غناء كان, اما الصوت الذي غنته فكان:
نفسي اكنت عليك مدعياً
ام حين ازمع بينهم خنت
ان كنت مولعة بذكرهم
فعلى فراقهم الامت
-وكانت (دنانير) تحفظ الكثير عن استاذها (ابراهيم الموصلي) وتبدع في غناء تلك الالحان حتى لايكاد يلحظ اي فرق في اداء هذه الالحان بينها وبين استاذها، ولهذا قال (ابراهيم) ذات مرة (ليحيى بن خالد البرمكي) : متى فقدتني ودنانير باقية فما فقدتني .
-ويخبرنا (ابو الفرج الاصفهاني ) عن (دنانير) انها تعتبر من المغنيات النادرات اللواتي يتمتعن بذاكرة قوية ومدهشة حتى انه كان يقال عنها انها اروى الناس للغناء القديم.
-وبعد نكبة البرامكة، اراد الخليفة (هارون الرشيد) ان يستمع الى غناء (دنانير) وهي التي عاشت في كنف ورعاية البرامكة زمناً طويلاً وعندما امرها (الرشيد) ان تغني ابت وتمنعت وقالت له: يا امير المؤمنين اني آليت الا اغني بعد سيدي ابدا، فماكان منه الا ان غضب وامر بصفعها واعطيت العود، فأخذته وهي تبكي بكاءً مؤثراً فغنت:
يادار سلمى بنازح السند
بين الثنايا ومسقط اللبد
لما رأيت الديار قد درست
ايقنت ان النعيم لم يعد
-وهنا تأثر (الرشيد) عميقاً، فماكان منه الا ان رق لها وعفا عنها، وفي روايات اخرى انه بكى بكاء شديداً وندم على فعلته تلك ولكن بعد فوات الاوان.
والحقيقة ان (دنانير) كانت مثالاً حياً للفنانة المخلصة، حيث بقيت على عهد الوفاء للبرامكة اسيادها الى نهاية عمرها, وفي هذه المغنية المجيدة قال:(ابوحفص الشطرنجي):
اشبهك المسك وأشبهته
قائمة في لونه قاعده
لاشك اذ لونكما واحد
انكما من طينة واحدة

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
أفاق اسلامية
تقارير
عزيزتي
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved