* الانغماس في الزحام,, خير من اجترار اللوعة!
حظه السيء يحرق عظامه الملونة بالظمأ، فالفقر يحتويه,, والغضب يشتعل في اوردته المنتفخة بالوجع وكأن الاختناق غصة عفنة تسكن صدره، تمادى منصور فيما سيره يحث خطاه المنهكة حثاً,, ومن بين الأجساد المتكدسة على الرصيف وبمحاذاة ناصية الشارع المؤدية الى الزقاق القديم، كان يغرق نفسه بالضوضاء فاراً من هذا المحال، لأجل ذلك واصل سيره وامعن في المضي لا يغير وجهته المستقيمة ولا يحيد عن قراره في اقتحام الطرق فقط يوزع خطوات ضائعة كان يدق بها عنق الدروب ويتوه في شرود سحيق,.
الأحداث باتت متشابهة لديه، من سرداب عميق في ذاكرته تأتيه مشاهد عشوائية,, علا صخب لأصوات مقززة امتلأت نفسه بها خطوة تائهة له سقطت في جوف حفرة عميقة، فانتشلها من العثرة والقاها في مهب الريح,, شتم الحظ السيء وتربصاته المستمرة لرحيله مضى منحرفاً الى طريق جانبي,, وهو يتمتم بعبارات السخط:
* لو كان الحظ رجلاً,, لقتلته,,!
قال له الرجل الوجيه ذو النظارة السميكة حين تلا عليه موقعه في الابداع التشكيلي:
انت موهوب فعلاً,, ولكننا اكتفينا بهذا العدد من المبدعين .
ومرة اخرى لطمه صوت متعجرف في احدى المؤسسات الخاصة:
مؤهلاتك لا تكفي لان تصبح شيئاً عندنا,, ابحث في مكان آخر .
وفي الصباح هرع الى شركة جديدة كانت تطلب موظفاً متواضعاً لكنهم اجابوه بالنفي ايضا.
* اجل,, لو كان الحظ رجلاً لقتلته,.
اراد ان يتمهل في سيره قليلا، ولكن الحنق اخذ بالاستشراء في عروقه فمضى واحداقه تتبعثرعلى الوجود المتراصة من حوله للمرة الثانية تخيل ان الحظ سينهض من الزحام ويأتيه وكلما امعن في غيظه,, غشت حدقاته اطياف وصور للحظ المزعوم انه يراه في تعرج ذلك الكهل الذي يتهجى المسير,, ولعله في وجه ذلك الشاب الذي ينفث بالنفور,, وربما انه يسكن جسد هذا الطفل الذي يحمل باقة من الزهور، تغادر حنجرته امطار من الزفرات الكئيبة,,ويهمس موجوعاً.
* آه,, لو كان الحظ رجلاً,.
دقت اقدامه سلالم البناية المتداعية، فصعدها الى السطح,, وانحرف يميناً حيث مسكنه تطويه العزلة ليس سوى صخب المفاتيح ما يكسر الصمت الذي يدثر مساء المدينة، خطواته تخيل انه سمعها تقتحم الردهة وتتجه به نحو ذلك المقعد العتيق في قلب الحجرة، ربما قليلاً من الراحة سينقي ذهنه من شوائب القهر، لكن خفقان قلبه في ازدياد مجنون,, اردته تلك الحقيقة الى هاوية اليأس,, فضرب على يد المقعد بانفعال وهو يقول:
* لو كان الحظ رجلاً,, لقتلته,.
عيناه الذابلتان تنغمسان بتعب مفاجىء طيلة النهار يتجول من مكان لآخر,, يحاول ان يقتنص سانحة تنجيه من هذا الفقر,, لكن دون جدوى حولته التجربة بغتة الى جسد خاو من الحيوية,, رفع اهدابه المثقلة عازماً على التشبث ببقايا قوى كان تغويه بالتحدث الى الجدران واثناء تحديقه في الارضية الزرقاء انزلقت رموشه على غفوة لذيذة، حيث الكرى كان اكثر اتساعاً لتجسيد الحلم,, حلمه الكبير بأن يصادف حظه، اخذ يتحقق على مساحة اللاوعي الشاسعة,, فجأة,, من ممر جانبي في عتمة داره خرج ظل راح يتبختر امام اغفاءاته بوقع غريب في عيون الرجل,, في انفاسه الرتيبة,, غرور لا يضاهيه مثيل، ربت الغريب على كتف منصور فأوقظه، الفزع اخذ ينهشه,, وعلى جبينه ترسب ركام من الدهشة,, سأل الغريب بذهول:
* من انت؟!.
تبخترت خطى الغريب على مرمى المكان من جديد فبحلق في قسماته يستشف هويته,, بعد برهة سمعه يقول بكبرياء,.
- انت الذي اردت حضوري,, فجئتك من فوري!.
صرخ فيه مجدداً.
* قلت لك من انت؟!.
سرت بين اوصاله قشعريرة لو كانت عيناه لمحتا من قبل كتلك البشاعة لما افزعه وجه الغريب وحين قهقه الرجل بضحكة مدوية كان منصور قد وصل بعينه الى حدود ثغره الكريه,, قال الرجل ينفث بسموم الشماتة:
- انا حظك سيدي حظك الذي وددت التخلص منه,.
منذ ان فارقته الصدمة للحظة مضت,, وهو يتحفز للمعركة وبدون مقدمات هب من مقعده وراح يلكم حظه بلكمات متتالية,, يضربه على رأسه وصدره,, يلطمه على صدغه وظهره وكل مكان من جسده حتى تركه جثة هامدة بلا حراك,.
طرقت عيناه بوادر الوعي توقظ انتباهته فأشرع جفونه يحدق في المكان,, وحين ايقن ان ما رآه لم يكن سوى حلم,, اندس الى سريره يكمل سباته,.
في تلك الليلة نام قرير العين وحلم,, حلم بأن ايامه القادمة تخلو من منغصات حظه العاثر,,!.
سحر الناجي