Sunday 22nd August, 1999 G No. 9824جريدة الجزيرة الأحد 11 ,جمادى الاولى 1420 العدد 9824


الغصن الذهبي والقصيدة الحديثة
د,نذير العظمة

معظم معلوماتنا عن اساطير الخصب وطقوسه جاءتنا بها الحفريات التي قام بها علماء الانتروبولوجيا (علم الانسان) وزملاؤهم علماء الآثار.
الا ان المرء لابد ان يتساءل كيف لحضارات عريقة ضاربة في القدم تغيب في باطن الارض وتندثر شعوباً ولغات وتقاليد ولايبقى منها الا الاثر الدارس والوشم الطامس ثم تأتي اكتشافات العلوم الانسانية الحديثة وتزيح النقاب عن حضارات وثقافات ولغات حفظتها لنا النقوش والمدونات على اوراق البردي في وادي النيل والواح الطين المشوي في ارض الرافدين وسوريا ونقوش الجزيرة, والسؤال هو ألم يبق من هذه الحضارات الدارسة باقية في ذاكرتنا ولغتنا وتاريخنا ام انها تراثات قديمة فحسب استردتها علومنا الانسانية الحديثة شاركتنا الارض والانسان ولم تشاركنا التاريخ والزمان؟ نحن طبعا مدينون لهذه العلوم الحديثة واكتشافاتها باتساع معارفنا حول هذه الحضارات الدارسة، الا ان الحضارة روح لاتموت وتبقى متمثلة في حضارات اخرى تأتي بعدها على غرار ماحدث في التاريخ القديم فيمايسمى بالشرق الادنى.
ولاريب ان دراسة التحولات من حضارة الى حضارة للافكار والرموز والشخصيات والصور يوفر متعة الاكتشاف التي يحس بها عالم الاناسة وهو يزيح النقاب عما يخبئه لنا باطن الارض من ثقافات اندثرت.
الااننا لندهش احيانا ان بعضاً من رموز هذه الحضارات لم يبق فقط عبر التمثل والتحول بل يبقى ايضاً عبر الذاكرة الشعبية او الاجتماعية او الادبية في بعض الاحوال.
لقد صاحب حركة ابولو (1931- 1934) اهتمام بالميثولوجيا الاوربية ذات الجذور الاغريقية والرومانية، والدراسات الحديثة للميثولوجيا المقارنة اثبتت كيف هاجر كثير من الاساطير والرموز من الشرق الى الغرب.
ان عشتار بابل هي ، دون ريب، ام فينوس الرومانية وافروديت الاغريقية، وايزيس المصرية واخت عشتروت فينيقيا.
انهن جميعا صورة اخرى عن عشتار ومسميات مختلفة لوظيفة واحدة وطقوس مشتركة.
الا ان الالحاح على دور عشتار في رد الحياة الى تموز او ادونيس بعد ان صرعه الخنزير البري الذي يجسد الشر يعبر عن معاناتنا الحديثة والحاجة الى النهضة.
وهذا تحديداً مايميز حركة مجلة شعر والمدرسة التموزية عن جماعة ابولو التي اتجه شعراء منها الى أفروديت وفينوس لاعشتار وما يرافقها من طقوس الخصب.
ان التحول من الاساطير الاغريقية الاوربية الى اصولها البابلية والكنعانية والمصرية القديمة ينطوي بدون شك على الرغبة في العودة الى الجذور والينابيع الدفينة في قلب حضاراتنا القديمة.
فليس هناك شاعر واحد من الحركة التموزية احتفل بفينوس او افروديت كجماعة ابولو، ومع تحليهم بروح الانفتاح على التراث الانساني غربيا كان او شرقيا الا انهم التصقوا بالاساطير السامية القديمة كعودة الى الذات الحضارية وتعرف عليها والاعتزاز بها وكانت البدايات بعامل الانبهار بالرموز الوافدة ولكن شعراء المراحل التالية وجدوا ذواتهم في الرموز الاصلية والجذور الدفينة.
لقد كفانا جيمس فريزر في غصنه الذهبي وهو موسوعة انتروبو لوجية ضخمة مؤنة البحث واعطانا صورة متكاملة عن اساطير الخصب محدداً دلالات الطقوس والرموز التي تعددت تسمياتها وادوار ابطالها لكن دلالاتها واحدة كما في مصر وسوريا وبلاد الرافدين وجنوب شرق آسيا.
واكد فريزر على ثنائية الحياة و الموت والنزول الى العالم الاسفل والنهوض من الموت وصراع الجفاف والخصب رابطا في تجليات اساطير الخصب وطقوسه، الجانب الاسطوري بالانساني والطبيعي.
فكانت الاسطورة بحق تفسيراً انسانياً خياليا لما يجري في عالم الانسان والطبيعة من تقلب بين فناء وبقاء في دورة الزمن، وتعاقبه الذي ينتقل من الشباب الى الشيخوخة والموت ومنهما الى الحياة والشباب مرة اخرى.
وقد حرص جيمس فريزر على الحقل الدلالي المشترك هذا لاساطير الخصب وطقوسه وان تعددت رموزه وابطاله، من عشتار بابل وتموز (إلى عشتروت فينيقيا وادونيس) الى ايزيس مصر وازوريس، وآتيس جنوب شرق آسيا التي اتخذ اغلبها تسميات مختلفة في أساطير اثينا وروما واوربا التي ورثتهما, الا ان دراما اساطير الخصب وطقوسه لاتتم بثنائي الاسطورة الذكر والانثى لابد من عنصر ثلاثي بينهما يمثل الموت حتى تتم دورة الحياة.
ست رمز الظلام في الاسطورة المصرية يقابل في الاسطورة البابلية والكنعانية الخنزير البري او العصابة التي تترصد تموز بالقتل في رواية بابلية اخرى.
وهذه الصورة التي اعطانا اياها جيمس فريزر عن اساطير الخصب وصراعها هي التي اجتذبت شعراءنا في الاتجاه التموزي في مجلة شعر واحتلت الصدارة بعد ان كانت بدائلها الاوربية الرومانية الاغريقية (فينوس وافروديت) هي الغالبة في حركة جماعة ابولو بابعادها الرومانسية.
وحوافز الحركة الشعرية الحديثة ونزوعها هو الذي تحول بصورة عشتار وبدائلها من سياق الى سياق ومن معنى الى معنى على اختلاف الدلالات وتوحد الرمز والصورة.
وتحولت صورة عشتار من رمز للجمال والإلهام والحب الى رمز لصراع الحياة والموت,, الخصب والمحل الخير والشر, وتغلبت صورة عشتار المنقذة البطلة على الصورة الرومانسية وارتبطت الاسطورة بالواقع والواقع بالاسطورة مكتسبة دلالات جديدة من طموح المرحلة الى الاستقلال والحرية والنهضة.
إن رمنسة عشتار اي اعطاءها صورة رومانسية وزحزحتها عن وظيفة الانجاب والخصب وتغليب الحب على دلالاتها كان نزعة رومانسية مبكرة لم يكتب لها البقاء، لكن جماعة ابولو، ومن قبلها عباس محمود العقاد ، تعاملت مع بدائل عشتار الاغريقية والرومانية والاوروبية افروديت وفينوس اللتين طغت علىصورتهما وظيفة الالهام والحب والجمال.
ان التحول من فينوس وافروديت الوافدتين من ميثولوجيا الآخر الى عشتار وايزيس ينطوي على دلالات اكيدة على العودة الى الذات الحضارية والتعرف عليها.
يغني جبران عشتار كملهمة وينبوع للجمال والحب, ويسمو ابو القاسم الشابي في عذارى أفروديت الى نسق الحب الخالد، ويسبغ عبدالسلام في قصيدة فينوس عليها صورة ليلى ولبنى, ويعيد احمد زكي ابو شادي صياغة اسطورة افروديت وادونيس لقصة الحب الذي يفاجئه الموت.
ويترجم العقاد قصيدة فينوس على جثة ادونيس مؤكدا على المعنى نفسه, فالنزوع العام في تصوير عشتار اوبدائلها افروديت وفينوس وحتى ايزيس ينحو نحو دلالات عاطفية وصور الهام عائمة بدل الوظيفة الاساسية التي كانت لها في طقوس الخصب واساطيره الاوهي دور البطلة والمنقذة من الموت.
اما الحركة التموزية ومجلة شعر فلاتحتفل برمز من هذه الرموز الاغريقية والاوروبية وتعود عودة واحدة الى الأساطير الشرقية وتهيمن عشتار ورفيقها تموز على قصائد هذه الحركة ويحلان محل افروديت وفينوس، اما أدونيس فيتماهى من جديد مع رديفه تموز واصوله المشرقية بعد ان كان يظن انه ابداع اغريقي وروماني.
وهكذا تصبح القصيدة في الحركة التموزية ذات اتجاهين الاول هو احياء الميثولوجيا القديمة بابلية وكنعانية ومصرية واعطاؤها هوية عربية لافي القصيدة فحسب بل في المسرحية ايضا وتحميلها مضامين المعاناة العربية المعاصرة واستدعاء رموز تاريخية وفولكلورية عربية تقاربها فيما يعبر عن الحياة والموت والمصير والحب في هذه الميثولوجيات اصبح متداولا في سياقات معاصرة ، ومن خلال معاناة الحاضر الدائرة حول المعاني نفسها، برموزها الاصلية او برموز نتداعي معها من الموروث العربي الحي, والاتجاه الثاني ان يسمو الشاعر بالقصيدة من مستوى الذات الى مستوى المعاناة الحضارية فتصبح تعبيرا عن ، وعلامة على المعارك الفكرية والنفسية الدائرة لتثبيت الحضارة والهوية في صراع الوجود.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved