Sunday 12th September, 1999 G No. 9845جريدة الجزيرة الأحد 2 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9845


رؤية إسلامية للتعددية الفكرية
دكتور محمد عمارة

التعددية : تنوع، مؤسس على تميّز,, وخصوصية ,, ولذلك، فهي لا يمكن ان توجد وتتأتى - بل ولا حتى تُتصوَّر - إلا في إطار الوحدة,, والجامع ,, ولذلك لا يمكن اطلاق التعددية على التشرذم والقطيعة اللذين لا جامع لآحادهما، ولا على التمزق الذي انعدمت العلاقة بين وحداته- وايضا لا يمكن اطلاق التعددية على الواحدية التي لا أجزاء لها,.
فبدون الوحدة الجامعة لا يتصور تنوع وخصوصية وتميز، ومن ثم تعددية,.
وللتعددية مستويات، يحددها الجامع,, الرابط الذي يجمع ويوحد أجزاءها,, فعلى المستوى العالمي مثلا، هناك تعددية الحضارات المتميزة، والقوميات المختلفة، المؤسسة على تعدد الشرائع والمناهج والفلسفات واللغات والثقافات، وبينها جميعا جامع الاشتراك في الانسانية التي لا تمايز فيها ولا اختلاف.
وعلى مستوى كل حضارة من الحضارات، هناك تعددية في المذاهب ومدارس الفكر وفلسفاتها، وتيارات السياسة وتنظيماتها، وقد تكون في بعض الحضارات تعددية في القوميات واللغات والأوطان مع اجتماعها في رابط الحضارة الواحدة وجامعتها.
والتعددية، ككل الظواهر والمذاهب الفكرية، لها وسط- عدل- متوازن ولها طرفا غلو أحدهما إفراط والآخر تفريط ووسطها- العدل- المتوازن هو الذي يراعى العلاقة بين التميز,, والتنوع,, والتعدد وبين الجامع,, والرابط,, والوحدة بينما يمثل التشرذم غلو القطيعة والتنافر الذي لا جامع له,, كما تمثل الوحدة المنكرة للخصوصية، غلو القهر المانع من تميز الفرقاء واختصاصها.
***
واذا كانت الرؤية الاسلامية قد قصرت الوحدة التي لا تركب فيها ولا تعدد لها على الذات الإلهية وحدها، دون كل المخلوقات والمحدثات والموجودات، في كل ميادين الخلق المادية والحيوانية والانسانية والفكرية، تلك التي قامت جميعها على التعدد والتزاوج والتركب والارتفاق,, فإن هذه الرؤية الاسلامية تكون، بهذا الموقف الثابت - ثبات الاعتقاد الديني- قد جعلت من التعددية في كل الظواهر المخلوقة سنة من سنن الله، سبحانه وتعالى، في الخلق والمخلوقات جميعا، وآية من الآيات التي لا تبديل لها ولا تحويل,.
إنها القانون الالهى، والسنة الالهية- الأزلية الأبدية- في ميادين الكون المادي، والاجتماع الانساني، وشؤون العمران وميادينه,, وبها تتميز عوالم الخلق المتعددة عن ذات الحق الواحدة.
وإذا كانت الوسطية الجامعة في القصور الاسلامي هي خصيصة من خصائص الأمة الاسلامية، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (1) ,, وهي وسطية العدل المتوازن الوسط: العدل, جعلناكم أمة وسطا (2) ,, فإن التعددية الموزونة بميزان الاسلام، لابد وان تكون تميّزا لفرقاء يجمعهم جامع الاسلام، وتنوعا لمذاهب وتيارات تظللها جميعا وتحكمها مرجعية التصور الاسلامي الجامع، وخصوصيات متعددة في اطار ثوابت الوحدة الاسلامية,, فوحدة الأمة فيما هو معلوم من الدين بالضرورة- أي فيما يدركه الكافة بالفطرة، دون نظر، وبلا خلاف فيه- هي فريضة إلهية (إنَّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (3) لا تعدد فيها ولا افتراق,, أما فيما هو فروع وموضوعات للاجتهادات، فإن التعددية فيها واردة، يجمع فرقاءها ومدارسها واجتهاداتها وتياراتها الوحدة فيما هو معلوم من الدين بالضرورة من العقيدة والشريعة والمبادىء والأوطان,, فنطاق الوحدة بمثابة أصل الشجرة الطيبة,, والتعددية هي فروع هذا الأصل لهذه الشجرة الطيبة,, وهذه الفروع - التعددية- لا تكون فروعا حقيقية إلا اذا ارتوت من الأصل - الوحدة- وسرت فيها جميعها روح الأصل ومزاجه وصبغته التي بها يتميز عن الأصول الأخرى للمعتقدات.
بهذا المنظار والمنهاج يكون طريق النظر الاسلامي الى قضية التعددية,, فيراها قانون التنوع الاسلامي في إطار الوحدة الاسلامية.
***
ولقد اشار القرآن الكريم الى ميادين حكمت فيها السنة الإلهية بالتعددية في إطار الوحدة :
* ففي القوميات والأجناس تعددية، يتحدث عنها القرآن الكريم باعتبارها آية من آيات الله في الاجتماع الانساني، فيقول:(ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَّ في ذلك لآيات للعالمين) (4) ,, وهي تعددية في إطار جامع: الإنسان .
* وفي الشعوب والقبائل ، هناك تعددية، تثمر التمايز، الذي يدعو القرآن الى توظيفه في اقامة علاقات التعارف بين الفرقاء المتمايزين (يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنَّ الله عليم خبير) (5) ,, فتعددية التمايز الى شعوب وقبائل، قائمة في اطار جوامع: التعارف بين بني الانسان,, أي التفاعل فيما هو معروف وما هو متعارف عليه.
* وفي الشرائع والمناهج ومن ثم في الحضارات هناك تعددية يراها القرآن الكريم الأصل الدائم والقاعدة الأبدية، والسنة الإلهية، التي هي الحافز للتنافس في الخيرات، والاستباق في الطيبات، والسبب في التدافع الذي يقوّم ويرشِّد مسارات أمم الحضارات على دروب التقدم والارتقاء,, فهي المصدر والباعث على حيوية الابداع والتجديد الذي لا سبيل اليه إذا غاب التمايز وطُمست الخصوصيات بين الحضارات (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم) (6) ,, (لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (7) ,, فالتعددية هي الحافز على امتحانات وابتلاءات المنافسة والاستباق في ميادين الابداع والتجديد بين الفرقاء المتمايزين في الشرائع والمناهج والحضارات.
وفي هذا الاطار ايضا، اطار وحدة الدين وتعددية الشرائع جاء القرآن الكريم بتقرير هذه الحقيقة ( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرقوا فيه) (8) ، على حين تتعدد شرائع الأنبياء ومناهج أمم الرسالات، في إطار جامع: الدين الواحد ، وعلى النحو الذي صوره الحديث النبوي الشريف: الأنبياء إخوة لعلّات- أي أمهات متعددات ، دينهم واحد، وأمهاتهم شتى (9) .
وفي رعية الدولة الاسلامية الأولى - دولة المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- كانت هناك تعددية في اطار وحدة الأمة - تحدث عنها تفصيلا دستور تلك الدولة - المسمى في تراثنا وفي صلب الدستور بالصحيفة والكتاب ,, فالقبائل غدت لبنات متعددة- تحدثت الصحيفة عنها وعن احلافها وحقوقها وواجباتها- في اطار وحدة الأمة ,, والمهاجرون والانصار، مثلوا جوامع فرعية، اشارت اليهم الصحيفة في اطار الجامع الإسلامي الواحد، والأمة الإسلامية الواحدة,, والتعددية الدينية بين جماعة المؤمنين وجماعة يهود، تحدثت عنها الصحيفة ونظمت أُطر وآفاق تعدديتها في نطاق جامع الرعية ووحدة الأمة بالمعنى السياسي والدستوري والقانوني.
وعن هذه التعددية في اطار الوحدة نصت مواد الدستور - الصحيفة - فقالت:
المؤمنون والمسلمون، من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس .
وان يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .
وان يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين, وان على يهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم, وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة, وان بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .
وانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الى الله والى محمد رسول الله (10) .
ففي إطار جامع الأمة الواحدة، والدولة الواحدة، ذات المرجعية الواحدة، تعددت الانتماءات القبلية والدينية، ونظّم الدستور علاقات فرقاء هذا الانتماء.
* بل لقد وسعت وحدة الأمة الاسلامية، ألوانا من التعددية بلغت تناقضاتها الداخلية حد الصراعات المسلحة، لأن فرقاء هذه التعددية، رغم صراعهم، قد ظلوا على ولائهم للدولة الواحدة - فحافظوا على الجامع السياسي - وعلى ولائهم للدين الواحد - فحافظوا على الجامع الديني -,, فكان القتال بينهم على التأويل لا على التنزيل ,.
وكانوا جميعا، رغم القتال، على ولاء لوحدة الدولة ووحدة الدين,, ولقد كانت صراعات الفتنة الكبرى، زمن الراشدين، في هذا الاطار، الذي وسعت فيه وحدة الأمة فرقاء هذه الفتنة وذلك الصراع,, فلم يكن اقتتالهم بالمخرج لأي منهم من الأمة ولا من الملة ولا من الدولة .
وفي موقعة صفين 37ه- 657م التي مثلت قمة صراعات تلك الفتنة، يتحدث الامام علي بن أبي طالب عن الجامع الديني الموحد لفرقاء القتال، وكذلك عن جامع الدولة فيقول: لقد التقينا، وربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا في الاسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الايمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، والأمر واحد، إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان, ونحن منه براء (11) .
فالدين واحد وجامع,, والأمر واحد وجامع,, والخلاف في دم عثمان رضي الله عنه، فقط.
كما يرد الامام عليّ على شبهة الخوارج وتأويلهم الفاسد، الذي كفّروا به معاوية وأهل الشام، فيقول: إننا، والله، ما قاتلنا أهل الشام على ما توهم هؤلاء -الخوارج - من التفكير والفراق في الدين، وما قاتلناهم إلا لنردهم الى الجماعة- أي الجماعة السياسية - وانهم لاخواننا في الدين، قبلتنا واحدة، ورأينا أننا على الحق دونهم (12) .
ثم يؤكد الإمام عليّ كرم الله وجهه، على ان مصادر النزاع هي شبهات اثمرها التأويل ، فهي لا تخرج من أخوة الاسلام فيقول: لقد اصبحنا نقاتل اخواننا في الاسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل, فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا، ونتدانى بها الى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها، وامسكنا عما سواها,, (13) .
وعندما سئل عن رأيه في آخرة قتلى الفريقين؟!,, أجاب,,وإني أرجو ألا يقتل أحد نقى قلبه، منا ومنهم، إلا أدخله الله الجنة ! (14) .
هكذا وسعت وحدة الملة والدولة التعددية، حتى عندما بلغت الفتنة بين فرقائها درجة الاقتتال,, الأمر الذي لا نعتقد أن له نظيرا خارج منهاج الإسلام!.
***
هكذا انفتحت سبل التعددية واتسعت آفاقها أمام تيارات الفكر الإسلامي، في إطار وحدة وجامع التصديق بما جاء به الدين، مما هو معلوم منه بالضرورة,, فظلل الجامع الإسلامي الذي وحد الأمة والعقيدة والحضارة ودار الاسلام,, ظلل التعددية في اللغات والأقوام,, وفي الثقافات الفرعية,, وفي الأوطان والأقاليم المتميزة وفي الفِرق الاسلامية السياسية,, وفي المذاهب الفقهية,, وفي التيارات الفكرية,, فازدهرت تعددية الاجتهادات البشرية في إطار الجامع الثابت الخالد الذي تمثل فيما علم بالضرورة من أصول الدين.
الحواشي:
(1) البقرة: 143.
(2) رواه الإمام أحمد.
(3) الأنبياء: 92.
(4) الروم: 22.
(5)الحجرات: 13.
(6) هود: 118، 119.
(7)المائدة: 48.
(8) الشورى: 13.
(9) رواه البخاري ومسلم وابوداود والإمام احمد.
(10) مجموعة الوثائق السياسية للمعهد النبوي والخلافة الراشدة ص5-20, تحقيق: محمد حميد الدين الحيدر آبادي, طبعة القاهرة، سنة 1956م.
(11) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج17 ص141 تحقيق: محمد أبوالفضل ابراهيم, طبعة القاهرة سنة 1959م.
(12) الباقلاني التمهيد ص 237، 238, تحقيق: محمود محمد الخضيري، د, محمد عبدالهادي ابوريدة, طبعة القاهرة سنة 1947م.
(13) نهج البلاغة ص147، 148, طبعة دار الشعب, القاهرة.
(14) الباقلاني التمهيد ص237.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved