تتميز الرسالة الادبية بضرورة انحرافها على نفسها قبل ان تصل المرسل اليه (المتلقي)،وهذا ضابط صارم ودقيق لفرز الشعر واستبعاد اغلبه من الدائرة الابداعية، حتى وان دخل في الدائرة الشعرية، فليس كل من نظم نظما موسيقيا مقبولا صار مبدعا، ولكنه قد يكون شاعرا فحسب.
بذلك نعلم حتمية المجهود الذي يجب على المتلقي القيام به لفتح مغاليق النص، بخلاف ما إذا كانت الرسالة واضحة تماما لدى وصولها للمرسل اليه، اذ تنتقل في هذه الحالة لتصبح من النماذج التقريرية المباشرة التي تصلح ان تؤدي في كل شيء الا الشعر القائم على التخييل والربط بين علاقات غير طبيعية وغير مباشرة.
على هذا ينبغي ان نقرر وباطمئنان بالغ ضخامة التجاوزات السائدة المعاصرة، والتي تصف كل من كتب شعرا بانه مبدع، سواء كان ذلك في ساحة الفصيح او ضمن التجارب الشعبية، وهذانابع من جهل فادح بعملية الابداع ومايجب ان تنطوي عليه، ومرتبط بقصور واضح في فهم السمات المميزة للمبدع عن غيره.
ومن ذلك وبناء على انعدام المنهجية النقدية تموج الصفحات الشعبية بكثير من النتاجات المختلفة مع سيل من الاطراءات وعبارات المديح المتنوعة.
ومن جهة اخرى ترتبط خاصية الرسالة الادبية المميزة بشكل او بآخر بالصدق الواقعي بالاضافة طبعا الى الصدق الفني، الذي ربما لايكفي وحده وان نجح في بعض الاحيان كما عند الاعمى العباسي الذي وصف المعركة بدقة بالغة دون ان يراها بقوله:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا واسيافنا ليل تهاوى كواكبه

بخلاف قول الآخر العامي بعد معايشته للمآسي جراء الانتقام الشديد الذي ولسوء الحظ صادف اياما قائظة شديدة الحرارة مما جعل السوأى مضاعفة مما دفعه ليقول وبطريقة معبرة مميزة:

حدونا لهيب القيظ لامزهب ولاصملان عسى رب كتب هذا علينا مايخلينا

فلايمكن ان يقول هذا ونحوه من اعتمد على السماع والنقل دون مشاركة فعلية، وكذلك وصف الآخر للنوق من شدة تعبها ومقاومتها للصحراء اللافحة الحرارة صيفا، شديدة القر شتاء عندما قال :

فيح مراويح كالعيدان قوسن من كثر الادلاج والا وماي بالخالي

لست من خلال هذا اطلب فرض هذه المعايير او تلك على ماينشر، ولكنني انادي بالاقتصاد من هذا الكرم الحاتمي في هذه العبارات الرنانة الموحية بالتفرد والابداع، والاقتراب قدر الإمكان من اعطاء كل ذي حق حقه دون مبالغة او افراط.