** استكمالا لما طُرح في الحلقة الماضية,, نبدأ بابراز هذه الأسئلة لتكون تحديدا لمدى هذه الحلقة:
- ما هي الحداثة الشعرية؟ وما أهم شروطها؟ وما أهم ما يميز الشعر الحداثي؟ وما أهم الشروط لكي يكون الشاعر حداثياً؟.
- الحداثة هي الجديد,, الجديد في الشكل والمضمون، في اللفظ والمعنى، في المأخذ والأسلوب، في التعبير عن الرضا والغضب، في الوقوف أمام التحديات وفي الانهزام,, هي تطوير وابتكار، وتصميم لما يلوح لنافذ البصيرة من ملامح لواقع يتشكّل.
- الحداثة هي قراءة في ومضات المستقبل، للنفوذ اليها وتفسيرها,, وهي تهيئة وجدان الواقع لتقبل غير المنتظر.
- الحداثة هي تلقين الكلمات معان جديدة لكي تستطيع الكشف والاستشراف.
- فالحداثة هي المستقبل.
- والحداثة تفريغ وشحن.
- والحداثة هي حاسة الشم المطوّرة لرصد الشذى في مواطن الضوء البعيدة,, وهي التحليق الدائم في الأعماق,, تكره الوقوع على السطوح أثناء تحليقها,, فلا تتجه إلا لشفاف القلوب.
** أما أهم شروطها فهو أن تكون ذات مفاهيم ثورية بمعنى الثورة الواعية، الجميلة، ذات الطابع السلمي، التي تعرف ماذا تفعل، والتي تكون من داخل النص، التي تغير أثاث الغرفة وستائرها وتبقي على جدرانها وثوابتها الأخرى .
الثورة التي تكون لهدف محدد,, لا عشوائية في خطواتها,, ولا تخبط، ولا غموض في الرؤية,, ومن شروطها ايضا ان تعيش بجو تغلفه الحرية,, فلا حداثة بدون حرية، والحرية المقصودة هنا بمعناها المقيد لا العبثي.
أما أهم ما يميز الثائر الذي يريد ان يحمل مشعل الحداثة- وقد جرّنا الكلام للتطرق الى هذه النقطة- ان يحمل في فكره تصورات واضحة للمستقبل، لكي يسير على هدى من أمره، ولكي تضيف خطواته بناء معرفيا تطوريا، وتراكما تراثيا للمستقبل,, فسيره بدون وضوح من شأنه ان يحول خطواته الى عامل هدم، وأن يحول مشعل ضوئه الى فتيلة احراق، وعود ثقاب.
** أما أهم ما يميز الشعر الحداثي هو تركيزه على نقطتين هما في رأسه العينان، ولجسده اليدان، وهما جناحا خياله هاتان النقطتان هما: التساؤل والرؤيا,, فالشعر الحداثي متسائل بطبعه,, يقف عند الأشياء المألوفة ويتفحصها بتساؤل فيعيد تفسيرها، ويجعل تعريفها المألوف منطلقا وقاعدة لكلمات تمازج روح هذا التعريف ولكنها تسابق الضوء في مداها واستشرافها,, فالشعر الحداثي متسائل,, لا يقدم أجوبة,, بل يقدم اسئلة، يثيرها في كل موقع قدم يطئها,, أحد أهم أسلحته التي يستمد منها قوته وتأثيره هو السؤال، ونبرة التساؤل، فحتى اجاباته العرضية تصوغها هذه النبرة,, وتساؤله احتراق له لهب ألسنته تتقلب في الفضاء بحثا عن منفذ لها قد يحملها للأجمل,, والشعر الحداثي لا يحمل شكا في عقيدته ولكن تساؤله يثير شكوك من حوله,, فهو يحمل رؤية ما,, وهو سهم منطلق للمستقبل للبحث عن عالم جديد، أو مفازة ضوء، أو موضع قدم,, يستشرف الآتي، ويفسر العالم,, يتفحص الملامح، ويرصد الظواهر,, ويتعلق بأهداب صغيرة - تلتبس بأهداب المتاهات - ولكنه يعرف طريقه فتحمله الى بؤبؤ العين وهناك يجد له منصة انطلاق جديدة نحو عالم أرحب,, لا ينظر خلفه أبدا لأن قدميه لا يفارقان موضعهما حتى ترصد عينا خياله موضعا جديدا يكون امتدادا للموضع القديم.
** أما أهم الشروط لكي يكون الشاعر حداثيا فهي مجملة : ان يأتي بالجديد,, وأن يتجنب التقريرية والمباشرة، والتجريد,, وأن يكون شعره شعر البعد الثالث أي الذي من شأنه ان يعمق الفكرة والتجربة الشعرية, ويظهر وحدة التجربة الانسانية وتراكمها عبر التاريخ ,, وأن يكون شاعرا حضاريا أي أن يصوغ شعره الصياغة الجمالية الصحيحة للانسان العربي الحديث وان يدرك ان الشعر أحد مقومات الحضارة العربية الحديثة، وهو العنصر الجمالي الذي يتسق مع مسار هذه الحضارة ولا يشذ عنها,, وأن يستعمل لغة عصره,, وأن يكون شاهد عصره,, وأن تكون شهادة شعره على العصر شهادة الحضور الشامل وهذه الشروط من فحوى ما طرحه الناقد شاكر النابلسي.
** وأخيرا على ضوء ذلك كله نرى ان الشاعر خلف بن هذال من أكثر الشعراء المعاصرين حداثة، خاصة في قصائده التي قيلت في حرب الخليج,, ومع اعتقادنا بأن هذا الحكم سيكون مدوّيا في الساحة الشعبية، وخاصة عند مَن يدعون الحداثة، وأنه سيكون مفاجئا لتصورات أغلب المهتمين بها, إلا أنني أعي ما أقول,, وأملك من شواهد نصوص الشاعر ما يؤيد ذلك,, فهذا الشاعر الذي يلتزم كتابة الشعر العمودي اضاءت اشعاعات الحداثة في بعض نصوصه من جهة المضمون المعنى مع العلم أننا لا نقول بأنه قد استوى على صهوة موجة الحداثة تماما,, وإنما ركبها بصورة أوضح منها عند غيره في شعر تلك الفترة المحددة,, في الوقت الذي بحث عنها غيره من بعض الشعراء في متاهات الغموض أو في وحل قصيدة النثر- كما يطلق عليها- أو في تفريغ الألفاظ من المعنى تماما ليتوهم المتلقي بوجود حداثة ما في هذا الأسلوب يمليه عليه اعتقاده بقصور فهمه عن ادراك قامة الحداثة المزعومة.
فالحداثة ليست ادعاء وليست غموضا بل فهما يتجه للعمق ويتصف بالشمول واستشراف المستقبل، وادراكا يتفحص دقائق الأشياء,, وروحا تتعامل مع غير المنتظر.