كانت الكلمات الاولى التي بدأ بها حديثه تتعلق بالخيانة والعنف والتآمر, لاحظوا القدرة الادبية عندما يبدأ القاص بما يصدم عندها لايستطيع المستمع ان يفر من الاصغاء لبقية القصة، لانه يضعك في اطار محكم من الفضول والدهشة, وبعد ان وجه عدد كبير من الشتائم وضمن اصغائي انتقل الى الوجه الآخر المشرق لعلاقته مع زوجته في ايام الحب الاولى, وضع قليلا من الصمت بين القولين وبدل معايير وجهه ليقول: انها تلك الشجرة, كانني شاهدتها لاول مرة بجوار منزلنا,, فقد كنا نعيش (عائلة أبي وعماي) مع جدي رحمه الله في بيت عريق من اقدم بيوت جدة ينافس بيت آل نصيف وبيت الشربتلي وغيرهما من البيوت العريقة, يقال ان الذي بناه العم كردشان اشهر مقاول بناء في جدة في العصور الماضية, وكنا من اهم عائلات جدة ووجهائها ومازلنا, كان عمري اربع عشرة سنة وعمرها لم يتجاوز احدى عشرة سنة، عندما رأيتها تجلس عند الشجرة وحيدة في عز الظهر, جلست الى جانبها لم تكن المرة الاولى التي اجلس الى جانبها ولكنها في هذه المرة بدا عليها صمت لم اعرف له شبيهاً من قبل, فوضعت يدي على جبهتها فشعرت بحرارة تسري في قلبي وفي جسدي كله فسحبت يدي بسرعة، ولكني سحبت يداً اخرى غير اليد التي مددت, فالتفت اليها بحنان له طبيعة مختلفة وسألتها : لماذا هل فيه شيء يضايقك؟ لم تقل شيئا وكأنها قالت كل شيء, فعرفت منذ تلك اللحظة اني اصبحت مرهونا لهذه الفتاة, فانطلقت رصاصة حب من وسط جدة وجابت المملكة اكثر من اثنتي عشرة سنة لتستقر اخيرا في رأسي الذي قادني الى عالم الجنون وهذا العبر الذي تراني فيه,, سكت عن الكلام لكي اسأله او لكي اتشبع بمشهد الحب بين الصغار, وقد كنت في الواقع مراهقا صغيرا قريباً من تلك المرحلة التي يتحدث عنها فتشربت المشهد الرومانسي بقوة على خلفية الخيانة التي أسس بها سرده, وبعد ان وجد انني اصبحت هوة عاطفية يمكن ان يملأها بسهولة استطرد قائلا:
من بعد تلك الحادثة الصغيرة اصبحنا نتقابل في نفس المكان سرا رغم ان اهلينا لم يكونوا يشكون ابدا في اي علاقة, فكلنا اطفال وتربينا معا منذ ان عرفنا الدنيا ولكن مقتضيات الحب والقلب تفرض مثل هذا التخفي لكي يولد الحب بشكله الصحيح والرسمي, عندها اصبح بيني وبينها اشياء لايشترك فيها معنا احد, كلمات ونكات وحلوى وقاورير كازوزة نتبادلها فيما بيننا سرا, رغم انها لاتستحق من يخفيها عن الناس ولكن الحب اذا اراد ان يتطور لابد ان نغذيه الخصوصيات والاسرار الصغيرة, لايمكن ان يكون رجل وامرأة على علاقة حب الا اذا كان بينهما سر لايعرفه في العالم سواهما, فالحب بين المرأة والرجل يقوم على الاسرار المشتركة, فبدأت تتنامى بيننا الأسرار واخذت تتوسع على الكلمات والنكات والكازوزة لتدخل في منطقة الاحلام والتنهدات الحزينة التي لايمكن ان يدخلها غريب الا اذا كان غادرا, وتنوعت اماكن اللقاءات فمرة هنا ومرة هناك ومرة حول مدرستها ومرة عند البازان فبقعت خطوات الحب طرقات جدة القديمة ولم اكن اعرف حينها ان هذه الخطوات يمكن ان تنزلق في الاوحال رغم اننا أحيانا نعود واقدامنا مليئة بالطين الذي تخلفه الحمير التي كانت تجر التوانك التي تغذي جدة بالماء.
لم الاحظ الخلط في حديثه بين عبق الحب البرىء وبين الكلمات المشينة مثل (الاوحال) الا في النهاية, كان من الواضح انه لايريدني ان ابقى في منطقة اخلاقية محددة, فهو يجرر عواطفي يمين وشمال حتى اصبح في اسر حديثه ورهينة السرد القصصي الذي يبوح به بكل قوة وجنون لذا سأحاول يوم السبت القادم ان اضع خطوطا عامة لسرده حتى نتجنب معا مشقة الاحاديث المؤلمة للقلب فهذا الحب الطفولي الذي ينمو امامنا كأوراق الربيع لن يصمد طويلا وسينتهي في دماغه المعذب الى عاصفة من البغضاء لاتبقي ولاتذر.
لاني اتذكر انه سألني بعد تأمل قليل وبعد ان تلمظ بذكرياته القديمة: هل يمكن ان تتخيل يا عبدالله ان ترى طفلة صغيرة لايتجاوز عمرها احدى عشرة سنة لونها ابيض قليلا من الحنطية واسمر قليلا من الشامية على رأسها شعر اسود وفي وجهها عيون عسلية هل يمكن ان تتخيل انها ستصبح في يوم من الايام(,,,)