Thursday 7th October, 1999 G No. 9870جريدة الجزيرة الخميس 27 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9870


شيء من الدلال,, قليل من الحب
د, فهد حمد المغلوث

يعتقد البعض ممن يكابرون انفسهم، ممن يعتقدون انهم عمليون وواقعيون، يعتقدون ان مجرد الحديث عن موضوع كالدلال، انما هو شيء مثالي ومضيعة للوقت وليس مهما في حياتنا، بل انه في نظرهم ينم عن رومانسية زائدة ليس مكانها عالم اليوم المضطرب بأحداثه الايقاعية المتسارعة والمتناقضة، والمقترن بلهاثه خلف الماديات والمصالح الشخصية البحتة.
وأمثال هؤلاء - رغم احترامنا لهم - يتجاهلون ان الانسان منا من حقه ان يحلم بانسان يدلّله ويُشعره بأهميته وقيمته، ويحسسه بنوع من الاشباع العاطفي لمشاعره المكبوتة التي ما فتئت تتطلع لمن يشاركها احلامها ويقاسمها همومها مهما كانت وتحت كل الظروف امثال هؤلاء، يتجاهلون ماذا يعنيه هذا الدلال للانسان، وماذا يمكن ان يفعله به ويغيره فيه، وكيف يمكن ان يحيله شخصاً آخر كله امل وتفاؤل وسعادة واقبال على الحياة.
يتناسون كل ذلك ولا يؤمنون به ويطالبون غيرهم ان يكونوا مثلهم، والسبب يكمن في انهم يفتقدون هذه المشاعر الجياشة المرهفة، او لأن الظروف التي مرت بهم في حياتهم اماتت بداخلهم كل شيء جميل يمكن ان يحلم به انسان ويتوق اليه.
وامثال هؤلاء لم يعرفوا هذا الدلال الذي نتحدث عنه على حقيقته، لم يدركوا ماهيته ولم يلمسوا بانفسهم روعته او - وهذا الادهى والامر - انهم ربما دللوا غيرهم من الغرباء واشبعوهم دلالا، بينما اقرب الناس اليهم محرومون من هذا الدلال الذي اصبح عملة صعبة هذه الايام.
ولنكن اكثر واقعية مع انفسنا فانت كانسان، دعني اخاطبك ألا تحلم بانسان يدللك؟، ألا تريد من يشعرك بمعنى وجودك في هذه الحياة؟ ألا تشعر بحاجة لمن يبحث عنك، ليرضيك كلما شعر انه اخطأ في حقك؟ او كلما احس - مجرد احساس - انك متضايق من نفسك وممن هم حولك؟.
انت كانسان، ألا تشعر بحاجتك احيانا لمن يضمك الى صدره، ويمسح على شعرك برفق؟.
ألا تشعر بحاجتك الشديدة في وقت المعاناة والازمات لمن يخفف من قلقك وتوترك ولمن يهدئ من روعك بعبارات مريحة وكلمات اعتذار لطيفة واشادة بك ترفع من معنوياتك وتزيد من احترامك وتقديرك لنفسك؟.
ألا تشعر وانت في هذه الاجواء الجميلة الحالمة بأنك لا تريد ان تفارق ذلك الصدر الحنون والقلب الكبير والايادي الحانية لان كل ذلك اشعرك بالامان النفسي والعاطفي الذي تبحث عنه ونحنّ اليه؟.
شيء كهذا الذي تحلم به وتتوق اليه هو الدلال بعينه، هو الحب بذاته، لان الدلال ولو بجزء بسيط منه هو الحب ولو بقليل منه، لانهما مكملان لبعضهما، ولان في اجتماعهما وتوحدهما بداية لطريق السعادة، او مؤشر من مؤشرات السعادة، تلك الامنية الغالية التي يبحث عنها كل انسان بغض النظر عن وضعه الاجتماعي والاقتصادي وظروفه التي يعيشها.
صحيح ان الانسان قد يمنعه الخجل من ان يطالب بها كونه كبيراً مثلا او متزوجاً ام اعزباً رجلا كان ام إمرأة، ولكنه في قرار نفسه يحتاج اليها يريد ان يشعر بها تلامس خلجات وجدانه واوتار مشاعره المتعطشة لما يروي ظمأها الشديد.
تخيل نفسك بمفردك، مشغول بهموم الحياة تفكر في حالك، تتذكر تلك الايام الخوالي وتعيش تلك الذكريات التي تتمنى ان تعود كي تعيشها ولو لمرة اخرى بنفس اجوائها التي حدثت فيها لاول مرة تخيل نفسك وانت في الاجواء واذا بالدلال يطرق مسمعيك، يأتي اليك حيث انت، يسألك عن احوالك، ويطمئن عليك، ولو من بعيد، لدرجة تشعر معها بانه معك وبجانبك، عينيك في عينيه لا تريد ان تنزلهما عنه، ويديك مازالتا في يديه لا تريد ان تنهي مصافحتك لهما بسرعة، وجسم هذا الدلال امامك لا تريد ان يفارقك بعد ان حلّ ضيفاً عليك، في وقت كنت في امس الحاجة لوجوده معك وبجانبك.
فهل يعقل رغم ما انت فيه من واقع، ان يغادرك بسرعة وكأنه على سفر؟ وهل يعقل ان تودعه وانت لم تشبع منه بعد؟ بل هل يعقل ألاّ تكرم وفادته وهو من هو بالنسبة لك؟قد تقول في نفسك الآن - وأظنك فاعل - ولكن هذا ليس دلالا بل انسان! ولم لا؟ فهل يكون الدلال دلالا من دون انسان؟ وهل يكون الانسان انسانا دون ان يشعر بحب الآخرين له وسؤالهم عنه واطمئنانهم عليه؟ بل هل يكون هذا الانسان انسانا من دون ان يدلل من يحب ويشعره انه محطة جميلة وبارزة في مسيرة حياته مازالت تضيء طريقه؟,هذا فقط جزء من الدلال الذي نطالب به فما بالك اذن بقليل من الحب بجرعات بسيطة منه؟ ألست بحاجة له؟ ترى ما قيمة هذه الحياة التي نعيشها من دون وجود الحب في حياتنا وما قيمة الآخرين بالنسبة لنا اذا كانوا يبخلون علينا بحبهم وعطفهم وحنانهم رغم انهم قادرون على ذلك، رغم انه لا يكلفهم شيئا، رغم ان مكانتهم بالنسبة لنا سوف تكون اكبر واكبر حينما يشعروننا بحبهم لنا وعطفهم علينا؟.
حينما يحبك انسان ما ويميل اليك، فهذا لان بك مميزات لم يرها في الآخرين، وحينما ينفوه بحبه لك، يكون بذلك تجاوز مرحلة متقدمة من الحب، مرحلة يريد فيها ان يعبر لك عن كل شيء في داخله، مرحلة يريد فيها ان يقدم لك فيها كل ما يستطيع، فقط ليقول لك بأسلوبه الخاص كم انت مميز تستحق كل شيء، وكم انت رائع تستحق كل تضحية تقدم من اجلك! أليس هذا جميلا؟!.
هذا القليل من الحب الذي نبحث عنه ونطالب به في حياتنا من قبل الآخرين مهما كان قليلا فلا يجب ان يستهان به او يقلل من شأنه، ابدا انه كالبذرة الصغيرة جدا سوف تنمو وتكبر حينما نتعهدها بالرعاية والسقيا، الفرق بينهما وبين حب الانسان للانسان ان ذلك الحب يتمثل في الكلمة الطيبة والوفاء والابتسامة الحلوة الصادقة والطبطبات الحانية وشعور كل منهما بالآخر دون ان يشتكي احدهما بالآخر الى آخر ذلك من الاشياء الحلوة التي لها مفعول السحر في حياة الانسان.
وبالقدرة أولئك الذين يعطونك الدلال والحب حتى وهم بعيدون عنك، تفصل بينك وبينهم اميال كثيرة.
بالقدرة اولئك الذين ما ان تتحدث اليهم حتى تتعلق بهم وتكاد لا تستغني عنهم.
بالقدرة اولئك الذين من شدة حبك لهم واعجابك بهم لا تستطيع سوى ان تدافع عنهم عندما تسمع من يحاول التقليل من شأنهم او الاساءة اليهم وكأنك وكيلٌ عنهم.
بل بالقدرة اولئك الذين ما ان تسمع احدا يتحدث عنهم او يذكر اسمهم حتىيخفق قلبك تجاههم لانك معهم تشعر بالدلال والحب الذي لم يعطك إياه ولم تحصل عليه حتى من اقرب الناس اليك، ولكنك حصلت عليه منهم وبشكل صادق بعيد عن الاغراض الشخصية.
يا لهذا الدلال الغائب عنا والحب البعيد منا! كم نحن في حاجة ماسة اليه كي نشعر اننا في رحلة حالمة الى جزيرة نائية بعيدة، نحاول ان نصل اليها ببطء بذلك القارب الذي لا يحمل سوى نحن وحلمنا، نظل بهذا القارب نجوب المحيطات على اقل من مهلنا، ولم العجلة في الوصول والحلم يرافقنا في ذلك القارب الصغير الذي لا يسع سوانا ؟.
لم الشعور بالغربة او الوحدة ونحن نملك العالم بين ايدينا؟ لم الشعور بالقلق والسعادة تكاد تملأ علينا حياتنا؟.
يكفي ان نغمض اعيننا ونترك العنان لهذا القارب كي يبحر بنا الى اي اتجاه اراد، طالما اننا مع من نريد, يكفي ان نغمض اعيننا ونستمتع بنسمات البحر ورذاذه الخفيف يلفح وجوهنا ويلامس وجناتنا يكفي انه عالم من السعادة لا نريد الخروج منه.
أبعد كل ذلك الامتياح للدلال و كل تلك الاشواق للحب، ألا يحق لنا ان نحلم بشيء منه؟ بجزء ولو بسيط منه، برائحته؟ بذكرى عطرة نحتفظ بها له؟ كي نقول لانفسنا يوما ما بأننا حظينا بالدلال، بقسط قليل منه، المهم ان نراه بأعيننا ان نلمسه بانفسنا وان نشعر به من حولنا,أرأيتم كم هو مسكين هذا الانسان؟ لا يطالب سوى بجزء من اقل حقوقه، سوى بجزء بسيط من الدلال يضفي لحياته معنى وقليل من الحب يعطي لوجوده طعما، وليته مع هذه القناعة في الطلب يحصل عليه!.
اتمنى ألا تكون انت ذلك الانسان, ولو لم تكن كذلك فاحمد الله سبحانه وتعالى لأن هناك فئة ليس بالقليلة محرومة من الحب حتى من اقرب الاقرباء فما بالك بالدلال؟!.
وكل ما نستطيع قوله لك ان كنت محروما من الدلال فدلل نفسك بالطريقة المشروعة التي تشعرك بقيمتك وتعيد اليك الثقة في نفسك ان كنت فاقدا لها، لا تكن بخيلا مع نفسك، لا تستكثر عليها ابسط حقوقها، فقط لان هناك من هو احق منك بها؟ اعط الآخرين ولكن تذكر ان لنفسك عليك حقا.
وان لم يكن هناك من يقدم لك الحب الذي تريده فقدمه انت للآخرين ان كنت قادرا على ذلك، لانك سوف تجده يوما ما فقط لا تيأس من رحمة الله.
همسة:
أن تسمع صوت الدلال.
يناديك من بعيد.
يخاطبك من جديد,.
يشعرك بالوفاء.
يذكرك بالعطاء.
فذلك شعور جميل.
ولكن,.
ان تكتشف ان ذلك الدلال,.
هو نفسه الود المنشود,.
هو ذاته الخلود المفقود,.
فذلك اجمل بكثير,.
واكبر مما تحلم به,.
ويكفي انه الحب.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الفنيـــة
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved