Thursday 7th October, 1999 G No. 9870جريدة الجزيرة الخميس 27 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9870


قضية للنقاش
حرب أهلية في الصرب
رضا محمد لاري

يتمسك الحاكم الديكتاتور سلوبودان ميلوسيفيتش بالسلطة ويرفض الخروج منها لان وجوده بها يقدم له الحماية من غضبة العالم الذي يطالب بإلقاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة امام محكمة الجزاء الدولية في لاهاي، ومن غضبة الجماهير ببلده التي تريد الفتك به انتقاما مما انزله بها من موت او من عذاب يقرب من سكرات الموت.
بدأت عملية القمع للناس في بلجراد وغيرها من المدن الصربية لوقف مطالبها بإعادة ترتيب البيت الصربي من الداخل، بعد ان ثبت لها فساد الحكم الديكتاتوري الذي حول المواطنين الى نعاج يسوقهم سلوبودان ميلوسيفتيش الى القتال فيذبحون في الحرب، وتسوقهم القوات الدولية الى السلام فيموتون لنقصان في الارزاق ليحافظ ديكتاتور بلجراد على موقعه في السلطة حتى وان ادى بقاؤه بها الى تدمير الوطن الصربي بالسلام بصورة تفوق الدمار الذي نزل به بالحرب.
ما يحدث في داخل الصرب اليوم هو ثورة شعبية تطالب بتغييرات جذرية في الحياة السياسية، وليست مظاهرات تسير في الشوارع تطالب باصلاح نظام الحكم القائم في بلجراد الذي يستحيل اصلاحه لفقدانه للثقة الجماهيرية في الشارع ولعداءاته المزمنة مع الاسرة الدولية، ولم تعد مطالب الناس الافراج عن الحريات المحبوسة واخراجها من السجن وانما جاءت المطالبة بالقاء القبض على سجان هذه الحريات وتقديمه للمحاكمة عن جرائمه التي ارتكبها داخل السجن الكبير الوطن الصربي.
جسد هذه الثورة الشعبية في داخل الصرب ما يعرف باسم (التحالف من اجل التغيير) وهو تنظيم سياسي كونته المعارضة لنظام سلوبودان ميلوسيفيتس واخذ يقود الجماهير ضد النظام القائم لانقاذ البلاد من سطوة الحكم الديكتاتوري والوصول الى نظام ديمقراطي يحقق التوازن في الداخل بين الحاكم والمحكوم، ويفتح سبل التعاون الدولي الذي يعيد للصرب عضويته الطبيعية في الاسرة الدولية.
اصطدم هذا التحالف من اجل التغيير مع هيئة المنتفعين من النظام الديكتاتوري الذي يجسده سلوبودان ميلوسيفيتش فانطلقوا بجنودهم وسلاحهم في شوارع المدن الصربية المختلفة يقتلون الناس بصورة عشوائية بعد ان سموا الديمقراطية فوضى والحرية تطاولا على النظام القائم، وحقوق الناس عدوانا على النظام.
تجربة الكفاح من اجل الحرية في داخل الصرب جعلت الناس يواجهون في داخل الوطن خطر الموت اكثر من مواجهتهم له في الحروب العرقية التي خاضوها في كوسوفا والبوسنة وكرواتيا، لان الديكتاتورية القائمة في بلجراد كانت تعتدي بتلك الحروب على غيرها من العرقيات التي تشاركها في الوطن الواحد، بينما في مواجهتها مع الجماهير في شوارع المدن الصربية اخذت تدافع عن نفسها وبقائها في السلطة والحكم.
هذا المسلك الديكتاتوري العنيف في مواجهة رغبة الجماهير الصربية في التغيير الذي يستهدف قيام حياة ديمقراطية في بلادهم، يقدم التبرير لقيام حركات الانفصال العرقية عن الاتحاد الذي يجمعها مع غيرها من قوميات تحت مظلة الوحدة الوطنية الصربية الذي يعرف باسم الاتحاد الفيدرالي اليوغسلافي، فتلك القوميات ذات الاختلافات العرقية والدينية ظلت تعيش في غربة داخل اوطانها بما تلاقيه من معاملة دونية مصحوبة بويلات العذاب الذي كانت تنزله السلطة المركزية في بلجراد على اهل تلك الاقطار المرتبطة بها بسبب اختلاف عناصرها العرقية او عقيدتها الدينية.
من الواضح ان الاصلاحات المطلوبة في الوطن الصربي لن تتحقق بالاساليب السلمية من خلال الحوار المفتوح بين الشعب والسلطة للغياب الكلي للديمقراطية ومؤسساتها واتضحت هذه الحقيقة من ادخال السجن لكل من طالب باطلاق سراح المعتقلين الذين سحبوا من بيوتهم بعنف امام اسرهم لمعاقبتهم على ممارسة الحرية في التعبير عن مطالب الوطن وطالبوا للمواطنين حقوقهم الكاملة في المواطنة بما لها من حقوق وما عليها من واجبات.
اللغة الديمقراطية في داخل الصرب لغة غير مفهومة والتحدث بها في داخل المجتمع يعرض كل من يستخدمها للقمع في الشارع والتعذيب في غياهب السجون ويزيد من وطأة ذلك الغياب الكلي للقانون والتعطل الكامل للقضاء بصورة جعلت من الحاكم الديكتاتور سلوبودان ميلوسيفيتش القانون والقضاء معا بجعل اقواله قانونا يحكم البلاد واوامره احكاما قضائية تنزل على الناس، وحاشيته المستفيدة من وجوده في السلطة والحكم جلادة للشعب بتنفيذ اوامره بقوة السلاح لينالوا رضا الحاكم ويتمتعوا بالمميزات التي يحصلون عليها في مقابل هذا الرضا عنهم.
الاوضاع الداخلية في الصرب لا تخفى عن الاسرة الدولية، فلما تعذر عليها القاء القبض على سلوبودان ميلوسيفيتش وتقديمه للمحاكمة الدولية عن جرائمه ضد مواطني بلده بمحاربته للقوميات العرقية والدينية التي تشاركه في المواطنة وبضربه للجماهير بالسلاح الحي في شوارع المدن الصربية، لان روسيا تظلله بحمايتها لجأت الاسرة الدولية الى مخاطبته باللغة الدبلوماسية تارة من خلال موسكو وتارة اخرى بصورة مباشرة لتبديل سياسته الداخلية حتى يتحقق التوازن بين السلطة الحاكمة والشعب، رفض هذه المخاطبة الدولية الدبلوماسية واعتبرها تدخلا سافرا في الشئون الداخلية للصرب وتمثل مساسا مباشرا بالسيادة.
بغض النظر عن النتائج السلبية لهذه المخاطبة الدولية الدبلوماسية للنظام القائم في بلجراد، فاننا نرى فيها تراجعا دوليا عن تجريم سلوبودان ميلوسيفيتش وتقديمه للمحاكمة امام محكمة الجزاء الدولية في لاهاي، وهذا التراجع الدولي يمثل خطأ فادحا لانه افقد الاسرة الدولية مصداقيتها امام الشعب الصربي وامام الشعوب الاخرى التي تعاني من تسلط الحكم الديكتاتوري العنيف ضد وجودها دون ادنى مراعاة لحقوقها في المواطنة او رغباتها في الاستقلال الجزئي او الكلي عن الانظمة الديكتاتورية المتسلطة على رقابها.
التراجع عن معاقبة سلوبودان ميلوسيفيتش الذي فسر بعامل الخوف من موسكو، دفع بورس يلتسين الى القتال الوحشي ضد الشعب الداغستاني المطالب بحقه في الحياة المستقلة عن سطوة الحكم الديكتاتوري الروسي المسلط عليه، وجعل الشيشان يواجهون حربا غير متكافئة مع روسيا لاتزال تدور رحاها على ارضيتهم بعد ان غزاها الجند الروس المدججون بالسلاح ليفرضوا عليها ارادة روسيا عنوة، والعالم من حولها يتفرج على ما يحدث من عدوان روسي وقتل جماعي للشعب الشيشاني، وكأن ما يحدث يدور فوق كوكب آخر غير كوكبنا الارضي.
إننا نواجه اليوم ظاهرة دولية خطيرة هي استمرار الديكتاتورية الشيوعية بعد غياب الفكر والتطبيق الشيوعي يؤكد هذه الظاهرة الخطيرة ما اعلن في بكين في عيدها الخمسين على قيام الشيوعية بها، عن عدم تراجعها عن الممارسة الشيوعية حتى لا تدخل الوطن في حالة انفصام الشخصية الشيزوفرينية التي اصابت غيرها من الدول الشيوعية باستمرار الممارسة الشيوعية في الحكم بعد تغيب الفكر الشيوعي كفلسفة سياسية للحكم، حتى اصبح المسلك السياسي في تلك الدول المتراجعة عن الشيوعية يصطدم مع المجتمع الدولي الرأسمالي فيصفه بالديكتاتورية من مساقط رؤيته الفلسفية التي لا تنتمي اليها الدول المتراجعة عن الشيوعية، فحدث التصادم المسلح بين بلجراد وحلف شمال الاطلنطي (الناتو) في كوسوفا ويقوم اليوم التدخل الدولي السافر في شئون الصرب الداخلية بصورة مهينة للفكر الشيوعي الذي يمثل تراثا سياسيا لدول العالم الشيوعي سواء استمرت في تطبيقه او تراجعت عن الالتزام به.
تزداد مشكلة الغرب الديمقراطي مع الشرق الديكتاتوري في القارة الاوروبية من اصرار الديمقراطيين على تصدير ديمقراطيتهم في دول الشرق الاوربي والمطالبة بتطبيقها بنفس الاسلوب المطبقة به عندهم دون مراعاة لظروف الزمان الذي حدد معالم حياة سياسية في الشرق مختلفة عن الغرب ولمعطيات المكان بصعوباته المعيشية التي جعلت الاهتمام بلقمة العيش في دول الشرق تجعله لا يهتم بالحريات السياسية موضع الاهتمام البالغ عند الانسان في الغرب.
نحن نتفق مع حتمية الديمقراطية في الصرب لحل كل مشاكلها الداخلية، ولكننا نؤمن في ذات الوقت بالديمقراطية النابعة من معطيات المكان، والمتطورة من ظروف الزمان لتكون نبتة اقليمية لا سلعة سياسة مستوردة من الخارج والوصول الى هذه الديمقراطية النابعة من الذات تمر بمرحلة صعبة في داخل الصرب بسبب التصادم الحاد بين السلطة الحاكمة الراغبة في الاستمرار بالحكم وبين الجماهير المتطلعة الى المشاركة في الحكم عبر مؤسسات ديمقراطية، وهذا التصادم الحاد لا يمكن حله عن طريق الحوار المعطل بالقمع لارادة الجماهير الشعبية التي ستضطر الى اللجوء بعنف لمواجهة القمع المتسلط عليها.
هذه الاوضاع القائمة والمتفاعلة في داخل الصرب تعطي المؤشرات لقيام حرب اهلية في داخل البلاد تزداد آثارها التدميرية بالدعم الخارجي الروسي للحكومة الصربية وبالدعم الخارجي الاوربي للمقاومة الشعبية، بصورة تحول الوطن الصربي الى ميدان قتال بين روسيا واوربا لان روسيا تريد الابقاء على النظام القائم في بلجراد بكل اخطائه ومسلكه الديكتاتوري حتى تتآخى موسكو وبلجراد سياسيا داخل الاسرة الدولية، في الوقت الذي تريد فيه اوربا الاطاحة بالحكم القائم حتى تأخذ باساليب الحكم الديمقراطي الغربي لتصبح عضوا في التكتل الاوربي داخل الاسرة الدولية.
ولا تفوتنا الاهمية البالغة لاوربا الشرقية عند الطرفين الدوليين روسيا التي ترغب في التواجد السياسي بها حتى تضفي لنفسها اهمية تعوضها عن اهميتها الضائعة بعد تخليها عن شيوعيتها، واوربا التي ترى في استقرار اوربا الشرقية من النواحي السياسية والاقتصادية ضماناً لها من الناحية الامنية التي تزداد الحاجة اليها في ظل الاوضاع الدولية داخل العالم الرأسمالي الحر حتى تمنع امريكا من قيادة العالم بصورة منفردة توجه لخدمة المصالح الامريكية وتضر بالمصالح الاوربية خصوصا في ظل العولمة واتفاقيات الجات وما يفرضناه من فعالية لمنظمة التجارة الدولية التي تتسابق الدول لعضويتها لانها ستجعل كل العلاقات الدولية تدور في الاملاك الاقتصادية الجديدة.
هذه النظرة الاستراتيجية للمستقبل الدولي عاجزة حتى الآن عن منع قيام الحرب الاهلية في داخل الصرب لان الاوضاع بها ملتصقة بالصراع الداخلي حول اسلوب الحكم بمعطياته الديكتاتورية القائمة التي تتناقض مع رغبات الجماهير الشعبية في الحرية التي لا تستطيع الوصول اليها الا عبر النضال الشعبي في هذه المرحلة بسبب الغياب الكلي للمؤسسات الديمقراطية التي لا يزال الشعب عاجزا عن تحديد معالمها من الآن لانشغاله بالتحدي العنيف ضد النظام القائم.
في ظل غياب التصور لحياة ديمقراطية مستقبلية في الصرب تتخوف اوربا الغربية من الاستمرار في الحياة السياسية الديكتاتورية بعد نجاح المقاومة الشعبية في الاطاحة بالنظام القائم في بلجراد لان الديكتاتورية تقود الى ديكتاتورية خصوصا في ظل غياب الادوات الديمقراطية بمؤسساتها السياسية وكوادرها الادارية، وهذا ما يدفع اوربا اليوم الى تقديم العون للمقاومة في مسارات تؤدي الى قيام المؤسسات السياسية والاصلاح الاداري حتى يتم تبديل نظام الحكم ليكون مؤهلا لعضوية الوحدة الاوربية وكذلك لعضوية حلف الناتو ليحظى الصرب بما حققته بولندا والمجر وتشيكيا من مكاسب اقليمية ودولية من خلال الاخذ بالاسلوب الديمقراطي في الحكم ولكن هذا الموقف الاوروبي لا يمنع احتمالات قيام الحرب الاهلية في الصرب.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الفنيـــة
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved