Monday 11th October, 1999 G No. 9874جريدة الجزيرة الأثنين 2 ,رجب 1420 العدد 9874


ورحل البردوني صوت الكلاسيكية الجديدة

في الثلاثين من شهر اغسطس عام 1999 رحل الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني عن عمر يناهز الثالثة والسبعين بعد حياة حافلة بالمعاناة والمكابدة والنضال والعطاء والابداع الشعري الذي اضاف الى خارطة الشعر المعاصر ملمحا قويا ينتمي في خصوصيته الانسانية والوطنية والتراثية الى اليمن بأرضه وشعبه وتاريخه وثقافته كما ينتمي بنسيجه الفني الى تراث العربية الشعري والفكري عبر أكثر من الف وخمسائة عام ويتجاوز البردوني الدوائر المغلقة للبيئة والتاريخ ليصبح واحدا من الشعراء الانسانيين الذي نفذوا ببصيرتهم الثقافية الى جوهر الحقيقة الباقية في الفن والحياة على السواء ,, ابدع عبدالله البردوني عددا من الدواويين الشعرية حملت صوته الكلاسيكي الجديد الى آفاق الشعرية العربية, من هذه الدواوين: من ارض بلقيس وفي طريق الفجر مدينة الغد لعيني ام بلقيس ، السفر الى الايام الخضر، وجوه دخانية في مرايا الليل ، زمان بلا نوعية ، ترجمة رملية لأعراس الغبار وكائنات الشوق الآخر بالاضافة الى عدد من الدراسات الأدبية حول التراث الشعبي اليمني,.
ارهف البردوني وعيه منذ شبابه المبكر نور الحياة الذي يتجلى في الحب والخير والصدق والجمال كما ارهف حواسه لدبيب حركة الوجود من حوله وكان فقده لبصره شاحذا لثاقب بصيرته كما أنه حاول التماس المعرفة الحسية التي هي جوهر الفن بملامسة الأشياء بشجاعة وتعاطف وحنو,, ومن هنا جاء صوت التجربة الشعرية في دواوينه ممعنا في الحدة والتجديد والتعيين واصبحت لغته تتخذ هيئة الأشياء التي يتحدث عنها فهي تشف وترف وهي تقسو وتحنو,.
ولم يغفل عبدالله البردوني في اية مرحلة من مراحل حياته عن التقاط الومضات الوطنية والوثبات الفكرية كان مولعا بوطنه محبا له طالبا له الرفعة والتقدم عارفا بتاريخه نازفا من اجل مواجعه,, حافظ البردوني عروضيا على نظام القصيدة العمودية في انشطارها المتوازن وموسيقاها الهادرة القوية ولكنه كان شديد التحدي لاغرائها بطية نمت جناحها والسير به في دوربها المعبدة وأساليبها التقليدية, حفر بموهبته القوية العنيدة ملامح جديدة للقصيدة القديمة ولم يبتعد عن آفاق الحداثة الشعرية التي رسمت طرقا اخرى للحركة الشعرية وكان شديد الاقتراب من هموم الحداثة عبر محتواها الاجتماعي والسياسي والفني ولكنه آثر ان يقدم قصيدة يضرب بجذورها في تراثها القديم وتمتد بفروعها في تراب الواقع بتحولاته ونغماته واصواته الهائلة وكان اخلاصه للطلعات التي تميز بها بين شعراء جيله يقوده الى الجهد المضني حتى ليقول في ديوانه مدينة الغد:
هذه الحروف الضائعات المدى
ضيعت فيها العمر كي تضيع
ولست فيما جئته تاجرا
احس ما اشتري وماذا ابيع
اليكها ياقارئي انها
على مآسيها عذاب بديع
وهو ككل شاعر يحمل رسالة الى عصره والى العصور المقبلة يحلم البردوني بما يسميه مدينة الغد,, وكأنه يداعب الامل ليرى مدينته صنعاء ترفل في غلائل الحضارة الانسانية مذكرة الجميع بمجدها القديم - يقول عبدالله البردوني:
من دهور وأنت سحر العبارة
وانتظار المنى وحلم الاثارة
كنت بنت الغيوب دهرا فنمت
عن تجليك حشرجات الحضارة
وتداعى عصر يموت ليحيا
وهواه في كل سوق تجارة
انه يستشرق المستقبل المزدهر لهذه المدينة مؤمنا بها وباشراقها حيث تعيد النضرة لما جف والحنان للقلوب والدروب - يقول:
ذات يوم ستشرقين بلا وعد
تعيدين للهشيم النضارة
تزرعين الحنان في كل واد
وطريق في كل سوق وحارة
ان الامل الذي يشيع في القصيدة يوحي بصدق الشاعر في حبه للوطن وللانسانية وللخير للجميع - يقول البردوني مذكرا في بعض صوره بأبي القاسم الشابي:
سوف تأتين كالنبوءات كالأمطار
كالصيف كانثيال النضارة
تملئين الوجود عدلا رخيا
بعد جور مدجج بالحقارة
تحشدين الصفاء في كل لمى
وعلى كل نظرة وافترارة
وتصوغين عالما تثمر الكثبان
فيه ترف حتى الحجارة
وتعف الذئاب فيه وينسى
جبروت السلاح فيه المهارة
الى ان يقول:
اى دنيا سيدعين جناها
وصباها فوق احتمال العبارة
واذا كان البردوني قد آثر الشكل التقليدي لبناء القصيدة من حيث الوزن العروضي فانه يعد رائدا في الاتجاه بهذا الشكل الى مايمكن ان نسميه الكلاسيكية الجديدة التي تحافظ على الاصول المعيقة لخصائص الشعرية العربية في بعدها اللغوي والموسيقي والتاريخي ولكنها تغوض في الواقع حتى نخاعه ويملأ شرايينها بهواء العصر واريحه بصوره ورؤاه بأحداثه واحلامه.
ووطنية البردوني تتجلى في صور دافقة بالحب والعمق, انه يجسد صنعاء ويصطحبها معه الى فندق أموي حيث يقول في ديوانه زمان بلا نوعية :
توهمت اني عبت عن هذه الروعى
فمن اين جاءت تسحر الغرفة الصرعى
تهامسني في كل شيء تقول لي
الى اين عني راحل خفف المسعى
ان الشاعر يبدأ بالايحاء والتلميح وكأنه يحدثنا عن امرأة محبوبة تخشى رحيل حبيبها ثم يتساءل:
ومن هذه الروعى ؟ اظن وامتري
وادري وينسيني لحظى داخلي افعى
اما هذه صنعاء؟ اظن انها هنا
بطلعتها الجذلى بقامتها الفرعى
بخضرتها الكحلى بنكهة بوحها
بريا روابيها بعطرية المرعى
ثم يجلس إليها يأنس لها ويناجيها ويحاورها - يقول:
اما كنت من قلبي حضورا على النوى
ولكن حضور القرب عند الاسى ادعى
ثم يتغنى بتراثه الشعري الذي يعرفه وتعرفه صنعاء معه وكأنه يلجأ الى لغة خاصة بينهما,.
اصوغ واياها ولادة يحصب
اغنى واياها ,, ايا بارق الجرعا
نطير الى الآتي ونخشى غيوبه
نفر من الماضي ونهفو الى الرجعى
ثم يخترق جدار الماضي الىحداثة الفندق الاموي الذي يقيم فيه فيقول في لمحة طريفة:
طلبت فطور اثنين : قالوا بأنني
وحيد فقلت اثنين ان معي صنعا
اكلت واياها رغيفا ونشرة
هنا أكلتنا هذه النشرة الافعى
ويؤرقه الواقع العربي في ديوانه لعيني ام بلقيس فيتساءل ساخرا:
من نحن يا صرواح يا ميتم
موتى لكن ندعي نزعم
ننجر لانمضي ولاننثني
لانحن ايقاظ ولانوّم
نغفو بلا نوم ونصحو بلا
صحو فلا نرنو ولا نحلم
ويتمادى في رسم صورة باهتة اقرب الى العدم لهؤلاء الذين لايعرفون النوم ولا اليقظة فيقول:
كم تضحك الدنيا وتبكي أسى
ونحن لانبكي ولانبسم
فلم يعد يضحكنا مضحك 4
ولم تعد آلامنا تؤلم
اضاعت الافراح الوانها
وفي عروق الحزن جف الدم
ماذا ألفنا طعم اوجاعنا
او لم نعد نشتم او نطهم
وللشاعر قلب يحن الى الجمال والحب ولكنه ايضا يعرف الهجر والغضب, يقول في مقطوعة قصيرة بعنوان بعد الحنين:
هل تغفرين لو انني
أبدي الذي حاولت اخفي
سأقول شيئا تافها
يكفي الذي قد كان يكفي
ماعاد يسبقني الحنين اليك
او ينجر خلفي
ماكان جبارا هواك
وإنما قوّاه ضعفي
واليوم لا أبكي نواك
ولا اقترابي منك يشفي
لقد كان البردوني صوتا جهيرا من اصوات الشعر العربي المعاصر وقد حفر بموهبته ملامحه الفنية في الرقعة الشعرية وكان قلبه يفيض بهذه المشاعر التي لاتعرفها الا القلوب الحية الكبيرة - يقول البردوني:
اقول ماذا ياضحى ياغروب
في القلب شوق غير ما في القلوب
في القلب غير البغض غير الهوى
فكيف احكي ياضجيج الدروب
رحل الشاعر عبدالله البردوني ليترك لليمن شعره نقرأ منه صورتها الحقيقية ونشتشرف في ابياته مستقبلها الذي عاش الشاعر يتمناه نضيرا زاهرا عادلا مليئا بالخير والحب.
محمد إبراهيم أبو سنة

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الادارة والمجتمع
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
ندوة الجزيرة
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
الطبية
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved