Friday 15th October, 1999 G No. 9878جريدة الجزيرة الجمعة 6 ,رجب 1420 العدد 9878


شخصيات قلقة
جولز ورذي ( 1867 - 1933م)
الصراع بين روح الكاتب وروح المصلح

في ضواحي لندن الراقية كان يعيش شاب رياضي ، متين البنيان يهوى الصيد وركوب الخيل ، ولاتفارق الابتسامة شفتيه ,, حذرا في كلامه وفي تصرفاته ، شأنه في ذلك شأن أبناء الاسر الاستقراطية العريقة, درس القانون في جامعة اكسفورد - أعرق جامعات انجلترا وتخرج ليعمل بمهنة المحاماة فترة وجيزة فحسب اذ اعفاه ثراؤه الموروث عن ابيه مؤونة العمل لكسب العيش 0
هكذا كان جون جولزورذي عاطلا بالوراثة حتى سن الثلاثين نصف حياته تقريبا ولم يكن لاحد ان يتنبأ بما سيصبح عليه من مكانة عالمية في عالم الادب والمسرح فينال اعظم وسام بريطاني هو وسام الاستحقاق سنة 1929م كما يمنح عدد من درجات الدكتوراه الفخرية وفي عام 1932م يتوج مشواره في عالم الكتابة بمنحة جائزة نوبل في الاداب عن جدارة واستحقاق 0
لقد بدأ جولز ورذي مشوار الكتابة عام 1898م بعدد من القصص متأثرا فيها ببعض الكتاب الفرنسيين والروس امثال : فلوبير وموبسان وتشيكوف وتور جنيف ولم تحقق له تلك القصص الا الفشل الذريع ولولا تشجيع السيدة ( آدا ) فلربما توقف جولزورذي عن الكتابة مبكرا كانت تلك السيدة رائعة الجمال زوجة لابن عمه وقارئة اولى لقصصه ايمانا منها بملكاته الخلاقه وقدراته الادبية وقد ارتبط بها جولزورذي في علاقه عاطفية حميمة دون أن يستطيع الزواج منها حتى بعد وفاة زوجها ، نظرا للمعارضة الشديدة من جانب ابيه ، لان الزواج من أمراة مطلقة لم يكن بالشيء المقبول لدى افراد طبقته فتريث جولزورذي حتى وفاة ابيه ليتزوج من ( آدا ) وليبدأ معها حياة ادبية حقيقية ، بدأها بروايته "جزيرة المرائين "ويظهر فيها جليا انفعاله بما يدور حوله في المجتمع البريطاني ، فقد تكشفت له حياة البؤس في احياء لندن الفقيرة ، التي كان كثيرا ما يؤمها ويختلط بسكانها ، اذ كان لوالده عقارات بها تدر عليه دخلا لابأس به ، فتبين له زيف حياة الطبقة التي ينتمي اليها ، وقدم للقراء صورة صارخة عن طبقة الموسرين المتخمة بالمال ، وفي المقابل طبقة المحرومين التي تمثل قاع المجتمع ، والتي يسودها العنف ولا تضمر للمترفين الا العداء 0
ونظرا لنجاح روايته "جزيرة المرائين "لم يخطر في باله قط ان يكتب نصا مسرحيا ، حتى كان احد الايام وكان جولزورذي يجلس كعادته في مجلس الادباء مع صديقة الروائي جوزيف كونراد والمسرحي برنارد شو وتوماس سكوت المؤرخ والناقد جارنت وغيرهم ، كان مصغيا مبتسما لكل ما يدور من مناقشات وفوجىء بالناقد جارنت يقترح عليه ان يجرب الكتابة للمسرح ، نظرا لما يتمتع به من قدرة فائقة على تناول الحوار وقوة بنائه القصصي ولم يتردد جولزورذي طويلا امام حاسة جارنت الخبيرة فكتب اولى مسرحياته "الصندوق الفضي "وارسلها اليه وفي أقل من عام كانت تعرض على الجمهور وتحظى بقبول واسع وهي مسرحية تتناول وجهي القانون ازاء من لا حول لهم ولا قوة في مواجهة ذوي الجاه والسلطان في مجتمع اذا أخطأ فيه الكبير تغافلوا عنه او كرموه واذا أخطأ فيه الضعيف اقاموا عليه الحد 0
كشفت المسرحية عن ظهور نجم مسرحي جديد له موقف خاص مما يدور حوله ، يتهم مؤسسات الدولة بأنها ليست سوى انصاف حقائق ، ويتابع احداث عصره بدأ من حرب البوير في جنوب افريقيا ( 1899- 1902م ) مرورا بوفاة الملكة فيكتوريا ( 1901م ) وتصاعد موجة الاصلاح الاجتماعي ، وانتهاء بالحرب العالمية الاولى ، وقد انعكس هذا على رؤيته الانسانية وتعبيره الادبي ، فانشغل جولزورذي في اغلب مسرحياته بالصراع بين طبقات المجتمع مثل الصراع بين طبقة ملاك الاراضي وطبقة الانتهازيين من محدثي النعمة في مسرحية "اللعبة القاصمة "وبلغ ذروة عطائه المسرحي في عام 1912م بمسرحيته الشهيرة "العدالة "التي كانت بمثابة نداء انساني الى اعادة النظر في تطبيق القانون الجنائي واحوال السجون بعامة لقد تناسى اصحاب السلطة ما هي الانسانية تمسكا منهم بحرفية القانون ، مما أدى الى انتحار الفتى الغرير "فالدر "هربا من طائلة القانون واحتجاجا على السجون ونظمها القاسية وكان من اثر عرض تلك المسرحية ان دعا مستر ونستون تشرشل - وزير الداخلية انذاك - جولزورذي لمقابلته ، مما اسفر عن ادخال اصلاحات جوهرية وملموسة على نظام السجون في انجلترا 0
كان جولزورذي يمتلك احساسا بألم الاخرين فهو يتألم لدى رؤية انسان تعيس او شخص مقهور او مظلوم مغلوب على امره ولا يقف عند حد التألم فحسب بل يتخذ موقف المعادي 00 والمدافع عن انسانية الانسان مستفيدا من دراسته الاكاديمية للقانون في عدم التحيز لطرف على حساب الطرف الاخر مولعا بدقة انتقاء الفاظه ووضوح عبارته 0 انه يقف عند خط الوسط ويرقب ما يحدث عن يمينه وعن شماله ، ولديه الشجاعة والجرأة ان يلوم هؤلاء وأولئك ، اذا اقتضى الموقف ذلك انها البراعة في التزام الحيدة التامة عند تناول المواقف المختلفة سواء التي تثير الشفقة او السخرية مما يدل على اصالته الفنية وعن ذلك يقول جولزورذي : ان عملي ان اقول كيف يشعر الناس ويفكرون بطريقة مختلفة عن الطريقة التي يبدون او يتصرفون بها هناك شيء واحد وهو اننا جميعا افضل او على الاقل اكثر حيوية مما نبدو فما الحياة الا معبد صيني متعدد الادوار نولد في الدور السفلي منه ثم نحلق فوق السقف وفيما بين الدور السفلي والسقف نعيش مقنعين وراء اقنعة في مواقف لا نهاية لها من المخادعة ، ومن ذا الذي يعرف حقيقة انفسنا ؟ "
كثيرا ما كان جولزورذي يتساءل : ما الهدف من الحياة ؟ ليس لانه انسان عدمي لا يؤمن بشيء ، انما لانه كان مؤمنا لأبعد حد ، متمسكا بأهداب الفضيلة ، يطمح الى حياة آمنه لجميع البشر ومن هنا كان يتبرع بنصف دخله تقريبا كما تبرع بقيمة جائزة نوبل لجماعة P E N للكتاب العالميين ، أملا منه في تحقيق التعاون والصداقة بين كتاب العالم اجمع,, لقد اعطى الكثير من وقته وجهده للقضايا السياسية والاجتماعية منبها المسئولين بضرورة رفع المعاناة عن سكان الاحياء الفقيرة ، وتهيئة ظروف افضل لعمال المناجم ، كما نادى باصلاح قانون الاحوال الشخصية وحق المرأة في حياة كريمة 0
لقد كان مؤمنا في اعمق اعماقه بالمسرح كرسالة تحمل مضمونا اجتماعيا لا لبس فيه ورغم ذلك فنانا لا مصلحا اجتماعيا وكان يشعر بالالم اذا اشير الى مسرحياته كدعاية اجتماعية وليس كفن درامي وظل يؤكد حتى مماته انه ابدع مسرحياته بقلم فنان لا بقلم مصلح اجتماعي, اما المشاكل الاجتماعية التي تناولها في اعماله فقد ترك حلها للاخرين بعد ما ألقى عليها ضوءا صريحا لا يخبو أبداً .
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
لقاء
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved