Saturday 16th October, 1999 G No. 9879جريدة الجزيرة السبت 7 ,رجب 1420 العدد 9879


مظاهر اهتمام الملك عبدالعزيز بالعلم والعلماء

كان للملك عبدالعزيز فضل كبير على نشر العلم والاكثار من المدارس ومكافحة الجهل بكل الوسائل الممكنة, فمنذ ان فتح الرياض وهو يولي العلم اهتماما زائدا ويحرص دائما على توجيه ابنائه الى العلم النافع والعمل به.
يقول رحمه الله:
قليل من العلم يبارك فيه خير من كثير لا يبارك فيه والبركة في العمل.
ويحث ابناء شعبه على العمل بالعلم فيقول (ابنائي ان من كان منكم من بيت رفيع فليحرص على الا يكون سببا في خفضه، ومن كان منكم من بيت آخر فليبن لنفسه مجدا فقد منّ الله عليكم وارشدكم الى طرق الخير فاعلموا انا لعلمكم منتظرون) (1) .
فالمتتبع لسيرة الملك عبدالعزيز يدرك انه لم يقم بتوحيد المملكة وبناء صرحها على اساس الشريعة الغراء فحسب، بل انه سعى في تخليصها من التخلف وجاهد في سبيل القضاء على كل ما من شأنه عرقلة عملية النمو الحضاري للبلاد.
وكان اهتمامه بنشر العلم والمعرفة واحدا من تلك الانجازات العظيمة حيث حقق اهتمامه بهذا الجانب الذي حظي بدعمه المادي والمعنوي نجاحا الى حد القضاء على الجهل والامية بنسبة كبيرة لان اي حضارة لأي امة من الامم لا تقوم الا على العلم.
واهتمام الملك عبدالعزيز بنشر العلم قد مر بمرحلتين:
الأولى:
منذ ان استرد مدينة الرياض في الخامس من شهر شوال سنة 1319ه؛ وتنتهي بضم الحجاز لدولته سنة 1344ه.
وتركز اهتمامه في هذه المرحلة بتعليم البادية امور دينهم عن طريق انشاء الهجر وبناء المساجد فيها وارسال الوعاظ والمرشدين الى تلك المناطق للقيام بمهمة الارشاد والتثقيف وعقد حلقات الدرس في التوجيه بعد الصلاة.
ولا ننسى ان الكتاتيب كانت منتشرة في تلك المدن والقرى حيث تقوم بتعليم الصغار القرآن الكريم والقراءة والكتابة، وكان بعضهم يتخذ من زوايا المساجد اماكن للتدريس وهكذا كان المسجد مكانا للعبادة ودار العلم ومنطلقا للدعوة كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اما البادية فقد عهد الملك عبدالعزيز الى سكان الهجر فأشاع في نفوسهم طمأنينة الاستقرار والامن، وازال عنهم ظلمات الامية بنور العلم الشرعي الذي اضاءه الوعاظ (المطاوعة) وبث روح الخلق الاسلامي.
وبناء عليه يمكن اعتبار انشاء الهجر اول محاولة للتعليم قام بها الملك عبدالعزيز في هذا المجال، وكان يأمل رحمه الله ان يقدم للتعليم في هذه المرحلة الشيء الكثير لولا انشغاله بتوحيد المملكة وقلة الموارد المالية التي لم تمكنه من تحقيق كل تلك الآمال.
وكان نظام الهجر نظاما دينيا تربويا عقائديا، واختصت الهجر باستيطان الاخوان من البدو فقط، ولتربية النفوس وتهذيبها دينيا كانت الهجرة تبنى بعد ما يشاد المسجد الذي يكون مركز القوم لتأدية الصلاة عماد الدين، ومركز الشورى فيما يعترضهم من امور ومركز الارشاد والتوعية لمحاربة الجهل.
وقد وضع منهاجا تعليميا لبث روح العلم والتبصر بأمور الحياة والفروض الدينية، وعيّن الوعاظ والمرشدين (المطاوعة) ليكونوا معلمين ومفقهين، فكانوا نواة التعليم الاولى في نجد والمرجع الرسمي لهم فيما انغلق عليهم من شؤون واحوال (2) .
الثانية:
وتبدأ بعد ضم الحجاز الى نجد فقد تعلم الملك من تجربة الهجر ان التهاون في تعليم الابناء يترتب عليه صعوبة مهمة محو امية الكبار.
وبدأ الملك عبدالعزيز هذه المرحلة بانشاء مديرية المعارف في مكة سنة 1344ه وبدأت مهمتها مع ادخال المناهج الشرعية والعلمية في مراحل التعليم.
وبانشاء هذه المديرية انتهى نظام التعليم غير المنظم وحل محله تعليم حكومي منظم وموجه لخدمة سياسة الدولة وجعله الملك عبدالعزيز تعليما مجانيا بل وامر بصرف رواتب للطلبة تشجيعا لهم (3) .
ثم تحولت المديرية مع اتساع النشاط التعليمي الى وزارة سنة 1373ه؛ وبين انشاء المديرية وتحويلها الى وزارة شهدت المملكة ميلاد صروح تعليمية كثيرة بدأها بتنظيم التدريس بالحرمين وتحسين حالة العلماء العاملين بهما ثم تلاها بالانجازات الآتية:
1 - المعهد العلمي السعودي في مكة المكرمة سنة 1344ه.
2 - مدرسة الأمراء سنة 1354ه بالرياض.
3 - مدرسة تحضير البعثات سنة 1355ه.
4- دار التوحيد بالطائف سنة 1364ه.
5 - كلية الشريعة بمكة المكرمة سنة 1369ه.
6 - معهد الرياض العلمي سنة 1370ه والذي كان نواة للمعاهد العلمية المنتشرة في المملكة.
7 - كلية الشريعة بالرياض سنة 1373ه.
وكل هذه الانجازات الناجحة كانت نواة لنهضة التعليم بعد ذلك.
فعندما دخل الملك عبدالعزيز مكة سنة 1343ه؛ اخذ يواصل دعوته ويقوم بتجربة جديدة يواجه بها رواسب الماضي التي اراد ان يخلص منها امته ليعيد اليها دينها في ثوبه النقي الخالص من الشوائب، وكان الملك عبدالعزيز يتعرف الى العلماء الذين يعدهم للتعاون معه والعمل في مشروعاته كما ان معظم المشروعات التي نفذها كان الخير الأكبر فيها للجانب التعليمي باعتباره يريد إحداث تغيير في النفوس والمجتمع.
وعندما انشىء مجلس الشورى كان من اختصاصاته تعميم التعليم الديني في البلاد المطهرة والسعي في تعميم القراءة والكتابة (4) .
كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يؤكد على العلماء الاهتمام وكان يدعم هذا المرفق ماديا ومعنويا، فأمر بتوفير الكتب الدينية وطباعتها على حسابه الخاص فاتجه الملك عبدالعزيز الى طبع النفائس من كتب التراث ومن كتب العلم المهمة او ما يتصل بالدعوة او الكتب الادبية او الشعرية التي كان يرى تشجيع اصحابها بنشرها على حسابه, وقد ينبثق بعض هذا التوجيه عن نصائح العلماء او مستشاريه، وكان معروفا ان جلساء الملك عبدالعزيز من صفوة الرجال علما وادباء ورجاحة عقل (5) .
ولم يكن الملك عبدالعزيز يطبع الكتب على نفقته فحسب بل كان يأمر بشراء كميات كبير بقصد التوزيع على طلبة العلم او تشجيع المؤلفين، ولم يقتصر جهد الملك عبدالعزيز على ذلك بل امر بمنح المكافآت لطلاب العلم، مما كان له اثر كبير حيث اقبل الطلاب بعزيمة واجتهاد على طلب العلم لينهلوا من منابع المعرفة، مما اوجد طبقة من المثقفين تسلحت بسلاح العلم والعقيدة الاسلامية الصحيحة.
كل هذه الجهود للملك عبدالعزيز كانت تحدث في ظل ظروف صعبة من توحيد البلاد والعمل على نشر الامن.
لقد كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يرغب في ان يسير بالتعليم خطوات أبعد الى الامام وبطريقة منظمة رغم انشغاله في تلك المرحلة بأمور كثيرة منها سعيه المستمر لتوحيد اجزاء الدولة وبناء صرح الوحدة السياسية للمملكة، واهتمامه بنشر الامن والعدل في كافة المناطق الخاضعة له والعمل على تنمية الموارد الاقتصادية لهذا الكيان الكبير (6) .
وكان الملك عبدالعزيز مع اعتزازه بتراث الاسلام وحفاظه على مبادئها الروحية وتقاليدها الاخلاقية وتمسكه بتعاليم الاسلام، متفتحا على روح العصر متطلعا الى المدنية يريد ان يأخذ منها ما يفيد، ويقتبس كل ما ينهض بدولته ويرقي بأمته عازفا عن القشور حريصا على اللباب (7) .
وكان رحمه الله يرى أنه:
اذا نهض العرب مرة اخرى واخذوا بقسطهم العلمي في سائر العلوم المادية فانهم لا يأتون ببدعة، بل يعتبرون محيين لعهد اجدادهم الذين ملكوا ناصية العلم حقبة من الزمن وقدموا للانسان خدمات لاتنكر.
لقد كانت حركة التعليم في عهده رحمه الله تسير على الاسس والاهداف الاسلامية النبيلة، واهمها اهتمامه بالعلوم الشرعية والعقيدة الاسلامية واللغة العربية كأساس لبناء الفرد المسلم على اسس اسلامية وبلغة عربية صحيحة لانها رواية وثيقة تقود صاحبها الى خير الدارين وتأتي العلوم الاخرى بالدرجة الثانية من الاهتمام، وكل هذه الجهود في مجال نشر العلم قدمتها الدولة بتوجيه من الملك عبدالعزيز بل - كما اشرنا سابقا - كانت الكتب والأدوات الكتابية تقدم بدون مقابل وكذلك تخصيص المكافآت لتشجيع الطلاب على حل مشاكلهم في حالة تغربهم عن مدنهم وقراهم، ولا نكون مبالغين اذا قلنا ان الملك عبدالعزيز وضع كل امكانات الدولة وبذل كل غال ورخيص في سبيل نشر العلم ومحو الامية والقضاء على الجهل والتخلف، وتثقيف الشعب بعد ان كان الجهل سائدا في عموم البلاد.
فلقد كان الملك عبدالعزيز يرسل المعلمين والدعاة الى مختلف مناطق المملكة خاصة التي يرى انها في حاجة الى معلمين ولقد استفاد المواطنون من ذلك حيث تعلموا ما يفيدهم في امور دينهم ودنياهم, ومن امثلة العلماء الذين عملوا في هذا المجال بتوجيه من الملك عبدالعزيز الشيخ/ عبدالله القرعاوي حيث ذهب الى منطقة جيزان وما حولها فأفاد اهلها كثيرا حيث بلغ عدد المدارس التي انشأها (2800) (8) مدرسة وعدد الطلاب نحو خمسة وسبعين الفا منهم خمسة عشر ألف تلميذة (9) .
ولاشك ان للعلماء اسهاما بارزا في التحول العقدي والسلوكي للناس؛ وذلك لان الناس في الجزيرة العربية بعامة وفي نجد بخاصة؛ يحبون العلماء ويحترمونهم ظاهرا وباطنا؛ فهم لا يقدمون على العالم احدا من الناس؛ وعندهم ان كلمة العالم من اشرف الكلمات منزلة؛ وهذا الحب والاحترام يجعلان الناس ينقادون لتعاليم هؤلاء العلماء ويقتدون بهم.
ويرجع هذا الاحترام؛ والحب اللذان يتمتع بهما العلماء الى امور منها:
أ) حب الناس للدين؛ وعظمته في نفوسهم.
ب) احترام العلماء لانفسهم وزهدهم في الدنيا واستقامتهم ونبذهم ما يخدش حرمة العلم والعلماء (10) .
ولأنهم يتكلمون بلسان الشرع ويقضون بقضائه.
وكان الملك عبدالعزيز يعرف للعلماء هذه المكانة فكان يجلهم ويحترمهم ويستشيرهم في كثير من الامور ويستنير بآرائهم ويستفيد من علمهم ورجاحة عقولهم ومن امثلة ذلك ان بعض مستشاري الملك من خارج المملكة اقترحوا عليه عيدا للجلوس على العرش فوافقهم على ذلك فلما علم العلماء بذلك انكروه وارسلوا للملك عبدالعزيز خطاب نصيحة بذلك فرد عليهم بالجوانب التالي:
من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل
الى حضرات الاخوان الكرام قرة عيني وبهجة قلبي علماء المسلمين، وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا واياهم في جماع عبيده واوليائه آمين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، وصلني كتابكم المكرم الذي هو غاية مرادي، والذي ابتهج به قلبي وسرني غاية السرور.
وقد اخذته بعين القبول، وهذا الذي يجعلني ازداد حبا لكم ووثوقا بكم، وهذا الذي ارجو ان يكون دائما منكم لي ولأمثالي بالنصيحة وان الله يجعل القبول مني وممن ولاه الله امر المسلمين بذلك اني اقول (رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي) فما عملته من عمل موافق لكتاب الله فهو من الله، وما عملته مخالفا لأوامر الله فهو مني ومن الشيطان.
واستغفر الله وبحول الله وقوته سترون ان شاء الله ما يسركم في كل امر يعلي الله به كلمته،ويزيل الله به كل امر يخالف اوامره بحوله وقوته،واني لا أزال رهين فضلك ونصائحكم الثمينة وارجو من الله ان يحيينا على ملة الاسلام ويقيم بنا اوامره، ويرسل الله فضله وكرمه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: (1 ذي الحجة سنة 1349ه).
نشر هذا الجواب في ام القرى العدد 341 الصادر في مكة المكرمة يوم الجمعة 10 - صفر سنة 1350ه الموافق 26 يوليو سنة 1931م.
ولنختم هذه المقالة بنص من وصية الملك عبدالعزيز لولي عهده حيث قال فيها (ثم بعد ذلك تفهم ان كل شيء له حامية ومرجع، ومرجع المسلمين وحماتهم دينهم وعلماؤهم، فالعلماء كالنجوم زينة للسماء وقدوة للسائرين، ورجوم للشياطين) (11) هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د, محمد بن ناصر أبو حبيب الشثري *
قسم الدراسات والبحوث بجهاز الإرشاد والتوجيه .
(1) من خطب الملك عبدالعزيز ، نشرت في جريدة أم القرى عدد (342) الصادر في صفر سنة 1350ه.
(2) عمر أبو زلام: الملك عبدالعزيز العبقرية في التحرير والتوحيد ص 388/39.
(3) راجع في ذلك: د/ عبداللطيف بن دهيش التعليم الحكومي المنظم ص 26.
(4)فؤاد حمزة: البلاد العربية السعودية ص 101.
(5) الرفاعي: عناية الملك عبدالعزيز بنشر الكتب ص 9 بحوث مؤتمر الملك عبدالعزيز.
(6) عبداللطيف الدهيش: التعليم الحكومي المنظم ص 26.
(7) قدري قلعجي: موعد مع الشجاعة ص 229.
(8) الفيفي: السمط الحاوي 79.
(9) العمر: اثر القرعاوي في الدعوة صفحة 95.
(10) القصيبي/ الوهابية ص 113.
(11) الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز د, محمد الشثري ص 897.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
تقارير
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved