Sunday 17th October, 1999 G No. 9880جريدة الجزيرة الأحد 8 ,رجب 1420 العدد 9880


في الذكرى المئوية لميلاد نابوكوف
متعة الكتابة وجمع الفراشات والعودة إلى الجذور
رضا الظاهر

تعتمد سمعة الكاتب الروسي- الأمريكي الكبير فلاديمير نابوكوف، كواحد من ابرز الروائيين في القرن العشرين، وصاحب اسلوب رائع في السرد، وبراعة في الوصف، وابداع لغوي مدهش، تعتمد على انجازاته التي حققها في ميدان الرواية.
وكان نابوكوف يتمتع بحس راديكالي بما يعنيه الواقعي وقد ترك ذلك تأثيره على كل رواياته ذات السمة الغنائية الجميلة.
ولد نابوكوف عام 1899م لعائلة ارستقراطية في سانت بطرسبورغ بروسيا, كان ابوه سياسياً ليبرالياً، بارزاً، وامه من عائلة نبلاء, ويبدو انه ورث عن ابيه مبدءاً اخلاقياً راسخاً تجاه العمل وحباً لجمع الفراشات، وعن أمه الحساسية الابداعية, وكان نابوكوف الاكبر بين خمسة اطفال, ويصف نفسه باعتباره طفلاً طبيعياً يتحدث ثلاث لغات في عائلة تمتلك مكتبة ضخمة , فقد درس الانجليزية، ثم الفرنسية، وبعد ان ادرك والده ضرورة اتقانه لغته الام، الروسية، كلف مدرساً خصوصياً لتعليمه هذه اللغة,وكان آل نابوكوف يتحدثون، عادة، خليطاً من الفرنسية والانجليزية والروسية داخل العائلة، وكان لهذا التنوع اللغوي ان يلعب دوراً هاماً في تطور نابوكوف كفنان.
وكان نابوكوف شاباً مفعماً بالنشاط يمارس عدداً من الهوايات، وبينها، خصوصاً، جمع الفراشات, ويقول عن ذلك ان متعي هي المتع التي تتطلب جهداً كبيراً: الكتابة وجمع الفراشات ولم تكن ملاحقته الفراشات مجرد متعة، وانما رغبة أثرت على اسلوب حياته وفنه, وقد ساعد عدد من المعلمين على توفير تعليم متنوع له، وخصوصاً دراسة الرسم التي طورت قدراته على الملاحظة والتخيل.
ودخل نابوكوف مدرسة تنيشيف الخاصة في سانت بطرسبورغ عام 1911م، وكانت تضم ابناء النخبة، وكان يتسم بسلوك ينم عن الميل الى العزلة والغطرسة والاحساس بالتفرد حتى بين ابناء النخبة.
وفي عام 1916م اوصى احد اعمامه بمبلغ مليوني دولار ومقاطعة كبيرة له، فعززت تلك الثروة الشخصية استقلاليته، واستخدم جزءاً منها في طباعة مجموعته الشعرية الاولى.
كانت طفولة نابوكوف سعيدة حيث احاطه والده بحب عميق، ووجد في عائلته الاستقرار والحب والثروة, وكان وضعه، وتراثه، ومواهبه الادبية المتطورة تنبيء عن مستقبل مشرق, غير ان تلك الطفولة واجهت الصعاب، حيث كان الحدث الاول الذي انتزع جذور نابوكوف هو الثورة الروسية.
اما الحدث الثاني فكان الحرب العالمية الثانية، حيث تحول الى جوال دائم، لم يحصل على الشهرة إلا في وقت متأخر من حياته عند نجاح روايته الشهيرة لوليتا .
ولكن اذا كانت الثورة الروسية قد حرمته من امتيازاته، فانها نقشت في ذاكرته تراث الثقافة الروسية.
وفي عام 1917م اضطرت عائلته الى مغادرة بطرسبورغ.
اما ابوه فقد وافق على تولي منصب في حكومة كيرنيسكي المؤقتة, ولكنه تعرض الى السجن إثر سقوط هذه الحكومة على يد البلا شفة، واضطر لاحقاً الى مغادرة روسيا ليلتحق بعائلته التي كانت قد غادرت الى بلاد القرم، حيث بقيت هناك فترة ثمانية عشر شهراً.
وإثر تقدم الجيش الاحمر عام 1919م على هذه المنطقة رحلت العائلة الى انجلترا عبر اسطنبول، والتحق نابوكوف بجامعة كمبريدج لدراسة الادب الفرنسي والروسي متخرجاً منها عام 1922م, وفي تلك الفترة كتب اشعاراً بالانجليزية، واكمل الترجمة الروسية لكتاب لويس كارول آليس في بلاد العجائب .
وفي عام 1922م استقرت عائلة نابوكوف في برلين، حيث اصبح والده محرر صحيفة المهاجرين الروس الهادي , غير ان الوالد قتل على يد اثنين من المهاجرين الروس، ورحلت امه الى براغ حيث عاشت هناك حتى وفاتها عام 1939م.
وبعد تخرج نابوكوف من كمبريدج توجه الى برلين، حيث توجد جالية روسية كبيرة، وهناك نشر رواية قصيرة وقصائد تحت اسم فلاديمير سيرين , وكانت فترة اقامته في برلين هامة في تكوين قدراته الابداعية.
وفي عام 1937م غادر نابوكوف الى باريس وواصل الكتابة بالروسية هناك، كما مارس الكتابة بالفرنسية ايضاً.
وفي باريس كتب اول رواية له بالانجليزية وهي (الحياة الحقيقية لسباستيان نايت).
وفي عام 1940 غادر نابوكوف باريس متجهاً الى نيويورك هرباً من الغزو الألماني النازي, وعندما وصل الى الولايات المتحدة اكتشف ان إعالة نفسه وعائلته لم تكن امراً يسيراً، حتى تحقق النجاح المدهش لروايته (لوليتا) الذي ضمن له الشهرة والمال, وفي بداية وصوله الى نيويورك عمل في متحف التاريخ الطبيعي في مجال تصنيف الفراشات, وخلال صيف 1941 قام بتدريس الكتابة الابداعية بجامعة ستانفورد، قبل ان يتحول الى محاضر مقيم في الادب المقارن والادب الروسي في كلية ويليسلي، ثم عمل في جامعة هارفارد.
وفي عام 1955 نشر (لوليتا) في فرنسا، فأثارت عاصفة من الغضب، ولم يسمح بنشرها في الولايات المتحدة الا بعد ثلاث سنوات من ذلك، فاحتلت المركز الاول للمبيعات خلال ستة اشهر في امريكا متجاوزة شعبية رواية بوريس باسترناك المعروفة (دكتور جيفاغو).
وقد ساعدت العائدات التي حصل عليها من (لوليتا) على التفرغ للكتابة عام 1959.
وفي عام 1961 انتقل وزوجته فيرا الى مونترو بسويسرا, وهناك انتج عدداً من الروايات، كما قام بعدد من الترجمات، بينها ترجمات رواياته الروسية الى الانجليزية، ورواياته الانجليزية الى الروسية, وظل نابوكوف في سويسرا حتى وفاته في تموز/ يوليو 1977.
ان نابوكوف مرتبط ارتباطاً عميقاً بالتقاليد الادبية وخصوصاً غوغول، والى خيال بوشكين الذي كتب نابوكوف عنه، وقبل كل شيء إلى مناخ الرمزية الروسية في سنوات ما قبل الثورة, وافتتن نابوكوف، باحثاً وكاتباً، بالدراسات اللغوية التي جرت في سنوات الثلاثينيات مثل العمل الذي انجزه جماعة فيينا, ورغم ان رواياته الأولي ترجمت تباعاً الى الانجليزية فإن حياته الثانية ككاتب اميركي هي التي حولته الى كاتب بارز.
لقد ورث نابوكوف الرواية كمستودع اشكال فنية، وكان مستكشفاً للانطباع الروائي ذاته، ومفسراً للنص الداخلي, غير ان اعتقاداً جوهرياً في شكل الرواية يبقى، ذلك ان الشكل يكشف عن الطريقة التي نصوغ بها معنى (الواقع), إن إيمان نابوكوف هو إيمان بالفنان كمبدع، وبالحاجة الى ابتكار روايات، والعيش في متع متاهة العقل، وهذا هو ما يخلق ابطاله وقصصه, والرواية بالنسبة له شكل لتحليل الذات لا يصوغ الحقيقة الخارجية، وانما حقيقته الداخلية, ان مهمة الرواية هي الكوميديا التي تعتمد على اللاجدوى الشفافة للواقع، والطبيعة الاستحواذية لمحاولاتنا متابعتها وفهمها, وينبع كثير من هذا الآراء من جماليات الحداثة التي انبثقت عنها نظريات ومواقف نابوكوف, وبهذا المعنى فإن الفن يصبح الملاذ الأخير، العالم الذي اقصينا عنه بسبب نقصنا الإنساني، ولكن الذي نسعى الى العودة اليه, وشأن صموئيل بيكيت ولويس بورخيس، الكاتبين غير الامريكيين اللذين كان لهما تأثير هائل على الرواية الأميركية في الستينيات، فإن نابوكوف يجسد الآصرة الاساسية مع المراحل الاولى الاوربية من حركة الحداثة، وتطور ذلك النمط من الكتابة في الولايات المتحدة الذي اصبح يعرف ب(ما بعد الحداثة).
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved