Sunday 17th October, 1999 G No. 9880جريدة الجزيرة الأحد 8 ,رجب 1420 العدد 9880


الغرب يتذكر تراثه العربي (2)
د, حسن البنا عزالدين

انتهينا في الحلقة الماضية الى القول بأن الحاجة تظل ملحة الى الحوار مع الآخر المتمثل في اعمال جادة بعيدة عن التعصب وسوء الفهم، مثل كتاب (الدور العربي في التاريخ الادبي للقرون الوسطى، تراث منسي) لماريا روزا مونيكال وترجمة الدكتور صالح الغامدي, وقلنا ان هذه الحاجة الى الحوار جديرة بإثراء وعينا بذواتنا، وطرح الشعور بالتبعية بكل انواعها، ذلك الشعور الذي يثقل كاهل الكثيرين منا، وقد لا يكون مسؤولاً عنه سوى الدوران حول انفسنا في دوائر نصنعها نحن بأنفسنا، ونتوهم ان الآخر هو الذي صنعها لنا وحصرنا فيها.
وقد نرى ثمة اهمية قصوى في لفت النظر الى وعي المؤلفة نفسها الى شيء من هذا في تمهيدها للطبعة الاولى، وفي تقديمها للطبعة العربية، توطئ المؤلفة تمهيدها، كعادتها، بقول مقتبس من آخرين، وهنا عن كلمة (تروبادور) وتأثيلاتها العربية التي يحددها ربيرا المستعرب الاسباني وتتلخص في فرضية مؤداها ان كلمة (تروبار) ربما جاءت من كلمة (طرب) العربية,, تنقل المؤلفة عن احد دارسي شعر التروبادور هو جينروي المتخصص في الدراسات الرومانثية (اي المتعلقة باللغات المشتقة من اللاتينية مثل الايطالية والاسبانية والبرتغالية، والفرنسية والرومانية) رأي المتخصصين مثله في اقتراح ربيرا بأنه (رأي لا يستحق النقاش، لأنه لا يمكن ان يقنع احداً), (ص5)
وترى المؤلفة ان موقف جينروي هذا ليس استثناء، بل هو القاعدة, وكانت المؤلفة نفسها عندما بدأت رحلتها مع فعل (طرب) العربي في اثناء حضورها فصل في تعلم اللغة العربية بقصد التسلية الى حد كبير، وعلمت ان ثمة اقتراحات او ظنونا قد تثار حول امكانية ان تكون كلمة (تروبادور) مشتقة من العربية، لقد علمت كذلك ان هذه الاقتراحات والظنون يجب ان تظل مخفية الى حد كبير, وقد تتراءى لها منذ البداية ان الاصل العربي للكلمة الاوروبية لا يبدو مقبولاً, ولكن استاذها شجعها على بحث الأمر من جديد وتقديم توكيد او نفي له, وبذلك قضت سنوات في تمحيص اللغز واجزائه، كاشفة النقاب عن مسالك بحث تأثيلي استحوذ عليها، بعد ان جذب اليه عدداً من مؤرخي اللغة والادب قبلها منذ منتصف القرن التاسع عشر الى ما بعد الربع الاول من القرن العشرين, وفي هذه المرحلة عثرت على اقتراح ربيرا المشار اليه اعلاه، وربطت بينه وبين الفعل (طرب) الذي كانت قد درسته في فصل اللغة العربية.
وقد التفتت المؤلفة في اثناء بحثها الى مسألة اكثر خطورة، فلم تعد المسألة هي: هل جاءت هذه الكلمة او تلك الصورة من لغة الاندلس او من شعرها او من فلسفتها، بل لماذا عوملت مناقشات مثل هذه الاحتمالات بطريقة تختلف عن غيرها من المناقشات الاخرى المتعلقة بالعصر القروسطى وبيئته الثقافية - هذا اذا افترضنا ان مثل هذه المناقشات حول الاصل العربي قد حدثت بالفعل, تقول المؤلفة هنا: (وهذا الكتاب هو نتيجة التحري الذي قمت به حول هذه المسألة), (ص6)
في التمهيد نفسه تشخص المؤلفة بعض العوائق التي حالت دون تقبل المتخصصين في الدراسات الرومانثية الحقائق الواضحة او النظريات الغضة التي تعرضها اغلب الدراسات حول مسألة التأثير العربي في اصل شعر الحب العامي الرومانثي (التروبادور) فالاوربيون يجدون، كما تقول المؤلفة (ص6)، مشقة كبيرة في الاقرار باحتمال ان يكونوا - بطريقة او اخرى - مدينين بصورة بالغة للعالم العربي، او ان العرب كانوا عاملاً رئيساً في صنع اوربا القروسطية, كذلك تكشف المؤلفة ان تلك الدراسات تشترك في عدم اصرارها على سبر ملاحظاتها سبراً اضافياً، بل تصمم على فرضياتها الاولية التي تهمل الجانب العربي في المسألة, بل ان المؤلفة ازدادت قناعة بأن الدارسين الذين اظهروا غمامات الغرب في هذا الشأن لم يكونوا، بإثبات فرضية التأثير العربي، اقل افتقاداً للبصيرة من معظم زملائهم، ذلك ان قوى (العقل) و(الحقيقة) في هذا المجال، كمابدت لكثير من الدارسين على الاقل، لم تنجح في تغيير الفرضيات التي تشكل صورة القرون الوسطى في اذهان اغلب المتخصصين في الدراسات القروسطية, فقوة الصورة الشائعة تظل اعظم بكثير، ونادراً ما تسمح بقبول دراسات معينة، او بتقنين نصوص معينة، او بتكامل شذرات معينة من المعرفة في جسد معلوماتنا العملي حول العصر.
ولذلك تعتمد المؤلفة في دراستها على فرضية، وتنطلق من قناعة، مؤداهما ان اي دراسة مخصوصة لأي نظرية من النظريات التي توصف (بالعربية) لا تستطيع ان تنجح طالما ظلت اكثر الصور شيوعاً لدينا حول العصر القروسطي عدائية، كما هي عليه الآن، تجاه مثل هذه الافكار حول هذا التأثير والتفاعل, ولذلك فإن المؤلفة تضع في حسبانها بشكل اساسي سبر الملاحظة التالية، التي لا تزال مجرد ملاحظة، وهي على حد تعبير المؤلفة (ص7): (إن التراث البحثي الاوروبي ينطوي على نظرة مسبقة لماضيه القروسطي وعلى مجموعة من الفرضيات حوله، هي ابعد من ان تفضي الى عدِّ عناصره السامية فاعلة ومركزية, فالهدف هو استكشاف الاسباب التي ادت الى ظهور وجهات النظر هذه واستكشاف اشكالها، وكذلك مواطن الضعف والقصور فيها، وتبيان وجهات النظر المختلفة التي يمكن ان تظهر للعصر لو اننا قادرون على تجريد انفسنا من بعض المفاهيم المحتفى بها للغربية Westerness، تلك المفاهيم التي نعض عليها بالنواجذ في بعض الأحيان.
وتقر المؤلفة بانها لم تكتشف اكتشافات عظيمة لصلات لا ريب فيها بين العرب والغربيين، ولم تشيد ادلة جديدة، ولم تعثر على مخطوطات من قبل تبين مديونية الغرب للثقافة العربية في القرون الوسطى, ولا هي تروي حقائق لم تكن معروفة او لم يستشهد كثير من الدارسين بها من قبل، وانما تحاول ان تبين السبب الذي من أجله بدت نصوص الآخرين العرب والمسلمين وحقائق حياتهم واكتشافاتهم زهيدة او مزهوداً فيها في نظر عدد كبير من مؤرخي الأدب الرومانثي، وان ترسم منظوراً قد يجعلها مهمة، وقد ينتشلها من غياهب الاهمال والنسيان التي ألقيت فيها منذ امد بعيد.
وقد ننظر في صورة الغلاف في الطبعة الاصلية التي حافظ عليها المترجم في الطبعة العربية، وان كان لم يشر في مقدمته الى ذلك، ولا شك انه كان على وعي بما قالته المؤلفة نفسها عن هذا الغلاف وترجمه في الصفحة 177 عندما كانت تتحدث عن فريدرك الثاني الذي حكم البلاط النورماندي من سنة 1215م الى سنة 1250م، وكان بلاطه جوهرة متألقة في أوروبا، ومركزاً من مراكز العلوم العربية ومصدراً لثقافة وعلم يتصفان بالاعجوبة والتنوع كما جاء في ص 93 من الترجمة نفسها , وهي ترى ان كل هذا التنوع من الرجال وكتاب الديوان المتحدثين بالعربية كانوا مجتمعين دائماً معاً، يستمعون للأغاني العربية او اللهجة الايطالية الناشئة، على نحو ماتوضح الرسمة المعاصرة لهم التي وضعت على غلاف الكتاب, وقد ورد تعريف لهذه الرسمة على الغلاف الداخلي للكتاب الاصل بانه يصور ماتيو دايلو، المستشار في بلاط بالرمو، وهو كتب الى تانكريد من ليتش Lecce: مدينة مسورة في جنوب شرق ايطاليا وهو قائد البارونات الايطاليين المعارضين للحكم الامبراطوري الألماني, وتبدو الكتابة في الرسمة باليونانية والعربية واللاتينية او الايطالية ، واللوحة محفوظة في مكتبة برجر في برن بسويسرا, ان التأمل في وجوه الرجال الكاتبين في اللوحة ليعكس لنا ذلك الشعور بمدى الغنى الذي تنطوي عليه تلك الثقافات المتنوعة التي تتوزع بين اللغات الثلاث المشار اليها.
وترى المؤلفة ان الصورة الاكثر اقناعاً لبلاط فريدرك الثاني هي تلك الصورة, لقد كان فريدرك واحداً من احذق المتخصصين الغربيين في الدراسات العربية في زمنه، وقد جعل بلاطه مركزاً بارزاً للمعرفة بشتى انواعها، وكان يجوب أبهاء مساكنه في صقلية فلاسفة عرب وأندلسيون مسيحيون ومسلمون ويهود وعلماء ومترجمون آخرون, وقد عرفوا الشعر الاندلسي وخصوصاً الموشحات التي استمتعوا بها، بالاضافة الى ازجال ابن قزمان، وربما شعر ابن عربي الذي كان في ذلك الوقت ما يزال حياً, ولم يكن العنصر (المثقف) لبلاط فريدرك هو وحده العنصر الذي استنبت الاشياء الاندلسية وترجمها, فحتى المظاهر الداخلية في البلاط كانت شديدة التعرب، من الحريم الى الملابس, ومن ذا يستطيع الشك في ان الموسيقى كانت كذلك ايضاً؟ (ص167 - 177، مع بعض التصرف).
إن الكتاب الذي بين ايدينا شيق حقاً، ويغري بالحوار معه في اكثر من زاوية، وسوف نفعل في الحلقة القادمة, ولكني اشير الآن الى بعض الهنات التي خرجت بها الترجمة دون قصد، وهي لا تقلل بالمرة من الجهد الفائق في ترجمة نص صعب للغاية في لغته الاصلية، فمن بين الاشياء الشكلية في نقل النص الأجنبي عدم الالتزام بالمسافات الفاصلة المتميزة احيانا بين فقرات أساسية، على نحو ما نجد في الفصل الثاني (ص44 وص 51 من الأصل وص71 وص81 من الترجمة), في مثل هذه المواضع تفصل المؤلفة بين كلامها السابق واللاحق بمسافة مزدوجة وتبدأ فقرة اساسية دون ترك مسافة في بداية السطر الاول منها، ولكن الترجمة العربية (او الصف الطباعي العربي) لم يلتزم بهذا, اما الملحق المفيد والمهم الذي اضافه المترجم واشار اليه في مقدمته عن الاعمال الادبية الاوروبية المهمة التي تناقشها المؤلفة في كتابها في اثناء مقارنتها مع النصوص العربية فلم يؤشر عليها في اثناء متن الترجمة بعلامة مخصوصة حتى ينتبه القارئ اليها ويعود اليها عند الحاجة, في هذه الحالة على القارئ اذا واجه بعض العناوين غير المعروفة لأعمال ادبية اوروبية ان يتفقد الملحق فقد يجد بغيته.
سقط من الترجمة اقتباس طويل من رواية اسم الوردة لإمبرتو ايكو وقد اوردته المؤلفة بعد صفحة العنوان، اي في مقدمة الكتاب، مما يعطينا اهمية خاصة، اذ انها سلكت هذه الطريق في كل اجزاء الكتاب وذلك عندما صدرت كل جزء باقتباس ما, وربما كان جميلاً لو ان المترجم (أو الطابع) لم يغفل هذا النص، بل ربما كان جميلاً كذلك لو انه عرَّف بهذه الرواية الحديثة وخصوصاً انه فعل ذلك بالنسبة الى رواية اخرى بعنوان (رواية الوردة وهي قصة حب شعري فرنسية، انظر ص ص 247 - 248), ولا تقل رواية اسم الوردة أهمية عن رواية الوردة في السياق الذي يدور فيه الكتاب, ان النص المقتبس في بداية الكتاب من اسم الوردة يشتمل على مقارنة شيقة ومهمة بين نظرة ارسطو في فيزيائه الى العالم ونظرة ابن رشد اليه، ومقارنة في الوقت نفسه بسفر التكوين.
واذا تغاضينا عن كلمة ناقصة هنا او خطأ مطبعي هناك فيجب ان نشير الى خطأ في تاريخ كتاب استاذنا الدكتور لطفي عبدالبديع - رحمة الله عليه - الذي اشارت اليه المؤلفة في آخر هامش في كتابها, فالتاريخ الحقيقي 1964م وليس 1946م كما جاء في الترجمة (ص223).
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved