Friday 22nd October, 1999 G No. 9885جريدة الجزيرة الجمعة 13 ,رجب 1420 العدد 9885


وكان الوداع,.

ذلك المساء كان مختلفا عن مساءاته الآفلة,,
مساء قاتم الحزن: حزين الشفق، ساكن النسيم,,, يجلس أبو علي هناك في مجلسه المعتاد في ملحق بجانب الفيلة الكبيرة قرب غرفة السائق.
مطرق الرأس في محاجره دموع حائرة: دموع يحرقها السؤال وتستنزفها الوحدة: يهمس الى عبدالمقصود السائق بكلمات مرتجفة وهو يقلب كفيه متأملا بصمات الزمان على اصابعه المنحنية، يكظم السؤال وهو يكرره: لماذا الناس يتهافتون على منزل أبي صالح لتعزية اولاده فيه وهم لم يفتقدوه مثلما فقدته: بل انا الذي فقد بفقده كل شيء، فقدت الجليس والأنيس: فقدت عبق الماضي وروح الحاضر,, ومع ذلك لم يأت شخص واحد لتعزيتي فيه, يالهم من جمادات تلك الكتل المتحركة,, ياله من جيل تحول حماسه ونشاطه وحيويته الى ما ليس له فائدة منه إلا ما قل,, ولكن لم لا ترد علي يا عبدالمقصود: ألا تسمع؟!
نأم بابا إيس فيه؟ إنت كلام كثير ما فيه يسكت شوي عشان أنا أشوف هذا تلفزيون اليوم كله كويس كل قناة زين زين مرة: خلي يشوف بابا أنا وأنت بأد تآل شوف أنت,, .
إيه ياعبدالمقصود: الحق ليس عليك بل على من تركني تحت عنايتك القيمة: ونسى أو نسوا أن لهم أباً يستحق رد بعض الجميل,.
تنهد بحرارة العجز وقام الى الخارج,.
تعال بابا وين بروح أنتا أنا بعدين فيه مشكلة
سحب خطاه بخمول الياس,.
وقف امام نخله كان قد غرسها منذ سنوات عندما كان فيه بقايا من قواه الجسدية وسقاها بماء الأمل واستقى منها ندى الذكريات.
تحسس اطراف الجريد بيديه ومسح على الخوص واحدة واحدة وكأنه يسألها عن حقبة من الزمن ولت وانطوت في غياهب الماضي الذي عاش عزيزا بصحته وشبابه,.
لم يكن يدري عن حال المشيب: وما هو صانع به,.
حمل العناء بابتسامة الرضى على كاهله
عاصر برودة التعب: وحرارة الجوع بعرق نازف قدماه ليس بينهما وبين سخونة الأرض وجاء,.
وجبينه اكتسب لونا داكنا لكثرة ما نزف من عرق البذل,.
مرارة التعب تحليها قناعة الرضا والصلح مع الأيام,.
يستنشق عبير أيامه عبر ابتسامة تجترها شفتاه,.
بعد مسافات لاهثة في خياله المنهك يتفيأ ظل تعبه لأخذ قسط من الراحة واحة النخيل التي يسر ناظريه بجنانها,, إيه: ألا ليت الشباب يعود يوما لأخبره بما فعل المشيب,بل بما فعل الأولاد,.
وين أنت بابا ليش ما يروح جوا فيه مكيف هنا بابا فيه شمس حار كثير بعدين أنت مريض كثير بعدين أنا فيه مشكلة كبير بابا .
قل لي ياعبدالمقصود كم لك من الأولاد؟
ليش بابا إيس فيه؟
هل انتظرتهم بفارغ الصبر,, وهل فرحت بقدومهم,,
كنا نستميت لتوفير ما يلزم لراحتهم,.
وضعناهم بذور أمل في شرايين قلوبنا راجين ينع ثمارهم,, حتى عندما كبروا واشتد عودهم كنا نظلهم تحت حنان رعايتنا الوارفة الظلال.
لم أفكر كثيرا عندما طلبوا مني بيع المزرعة والبيت في الديرة : أعلم انها غلطتي: لم أتردد برغم كل ما أكنه له من حب كبير فضلت رغبتهم على رغبتي ودست على عواطفي ومشاعري ووأدت أغلى ذكرياتي,.
واكتفيت بك يانخلتي الغالية لتجبري كسر قلبي وترافقي وحدتي في ما تبقى لي من أيام.
اتصدق ياعبدالمقصود أن ابا صالح كان معه حق عندما كان يقول لي ان ابنائي قد تغيرت معاملتهم لي بعدما نجحوا في اقناعي ببيع المزرعة: فعلا فقد كانوا يتسابقون في خدمتي قبل ذلك,, لم يعد لي رأي او مشورة,, بل اشعر أنهم يتهربون مني ومن طلباتي,, بل وصل بهم الحال الى انهم يتخاصمون أيهم يوصلني لمواعيدي في المستشفى,, ولكنهم وجدوا الحل اخيرا فيك ياعبدالمقصود.
ليتناسوا ان في ذلك الملحق إنسانا يلهث قلبه بالدعاء لهم مع كل نبضة من نبضاته,.
أنا بابا ما فيه معلوم كلام هذا كله: بس أنا يشوف انتا فيه جوى تعبان كثير وحزين كثير: بعدين هذا عيون انتا فيه دموع وكلام كثير,, .
تدري ياعبدالمقصود أنهم يحاولون ألأ يراني أصدقاؤهم ولا أراهم,, هل يستعيرون مني,؟ لا أدري,,, ربما يهربون من كل شيء يحرك الضمير لديهم ليذكرهم بتقصيرهم.
أخيرا وضعوني تحفه كباقي التحف الأثرية التي احضروها من بيت الديرة قبل بيعه,, فكل شيء لديهم شكل بلا معنى: حتى أوشكت ان أراهم في نظري كذلك.
إيه ياعبدالمقصود: انفض الناس من حولي لذنب لم أرتكبه: هل مر السنين على أديم هذا الهيكل ذنب يعاقب عليه من يعيش حتى يرى ابناءه وأحفاده رجالا تسر الناظرين رؤيتهم.
يرحمك الله يابا صالح كان ظل أنسك على كافيا عن سواك,, الآن أعلم يقينا معنى كلماتك تلك عندما قلت لي: أطال الله عمرك ياأبا علي فما أدري ما أفعل لو رحلت وتركتني: اكيد أني لن اطيق العيش في تلك الوحدة التي ستحيط بي وتخنق باقي أيامي.
صدقت ابا صالح: ولكن لم تركتني وحدي: استغفر الله: ورحمة الله عليك: وأعانني على الحياة فيما تبقى لي من أيام,.
وجاء اليوم الموعود:
المجلس يسوده الضجر والاكتئاب,.
الصمت ثقيل: والوقت طويل، والملل يبعث على التثاؤب,, وجوه عابسة تتصنع الحكمة,.
ونظرات تصطدم ببعضها,.
وبعض العبارات تتردد كما هي منذ سنوات يعاد تكرارها بشكل آلي.
وجوه تحضر وأخرى تغادر,.
والأبناء يمثلون الحزن في تكلف,.
الحمد لله ياأخي علي لم يبق على ايام العزاء إلا غدا لنرتاح من هذا الجو الكئيب والروتين الممل.
ولكن ياالله: كيف نسيت ذلك يالها من مصيبة
ما بك ياأحمد؟ لقد شغلت بالي,.
انها مشكلة يا علي فقد نسيت ان أسأل الوالد عن اسماء اشخاص كان قد أقرضهم مبالغ من المال: وقال انه سيتنازل لهم لعسر حالهم: يرحمه الله ليته أخبرني,.
كيف الهال ياخالد؟ أنت فه حزين على جدك؟ انا فيه حزين كثير مرة,,
اتدري عبدالمقصود ان المدرس قال لنا:
ان البيت الذي فيه جد او جدة كالبيت الذي فيه كنز, فهما كنز في الخبرة: وكنز في الأجر والثواب لمن عاملهم بالحسنى والبر والرعاية,.
غريبة: ولكن اهلنا لم يكونوا يسمحون لنا بالجلوس او التحدث معه إلا القليل وكأنه يحمل مرضا معديا
والآن مات واستراح من الجميع,.
اتمنى ان يسمع أبي وعمي هذا الكلام,, ولكن كيف؟
هل تقول لهم ياعبدالمقصود؟ لأنهم لا يعيرون رأينا أي اهتمام,.
ولكن ما الفائدة:
لقد فات الأوان: وخسرنا الكنز,.
او ربما يكون هناك كنز آخر في بيتنا وذلك عندما يكبر أبي ويكون جدا لأبنائي.
ولكن هل يكون كنزا ثمينا؟
وهل يرونه كذلك؟
ولكن: ربما الأهم من ذلك كله:
أن أراه في نظري: وأجعلهم أيضا يرونه:
الكنز الذي لا يفنى,.
زهرة الصحراء

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
الرياضية
أطفال
شرفات
العالم اليوم
تراث الجزيرة
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved