Monday 1st November, 1999 G No. 9895جريدة الجزيرة الأثنين 23 ,رجب 1420 العدد 9895


يارا
سعد التنكة
عبد الله بن بخيت

قلت يوم أمس الاول بأني ركبت باص النقل الجماعي مع أحد الأصدقاء بعد ان جرت بيننا مشادة كلامية على اثرها اصبحنا في مزاج كئيب لا يقبل المرح, وبعد قليل ركب شخص ثالث جلس امامنا بثلاثة أو اربعة مقاعد والتفت علينا مرتين او ثلاث ثم بادر السائق الفلبيني قائلاً: ما شاء الله فلبيني ويسوق بعير, قال هذه العبارة والتفت علينا ليرى رد الفعل وكما قلت لكم مزاجنا لا يحتمل المرح فلم نبد اي تجاوب, فأطلق هو ضحكة خفيفة لعل عدوى الضحك تسري فينا وليهيىء الجو العام للمرح, فطالما أننا في مركب واحد فمن الواجب الدخول في جو عائلي قرر هو أن يصنعه, فعاد مرة أخرى الى الفلبيني وقال: يا سواق لا تطامر بالبعير, طبعاً الفلبيني لا يفهم اي كلمة فاستمر في عمله بصمت, ولكن الرجل التفت الينا ليرى رد الفعل هذه المرة فلاحظ اننا لم نغير من درجة صمتنا, فاستدار ناحية الفلبيني ربما لأنه شعر ان نكتته تحتاج الى بعض التطوير والتحسين فقال: أنت يا ألخو ما عندكم في الفلبين بعارين, استمر الفلبيني في عمله ونحن استمررنا في كآبتنا وصمتنا.
من الواضح أنه شعر بالورطة ربما شعر بالاغتراب, فمثل هذا الكلام يجب ان يسبب الضحك، أو على الاقل المجاملة بالضحك, ولكننا أمعنا في الصمت دون أن نوحي بأننا كنا نسمعه أصلاً, فتحولت القضية بالنسبة له الى قضية كرامة لا قضية عيارة فحسب, اهم شيء الا تسفه انسان ينكت او يتميلح, فأخذ يتململ في كرسيه يريد ان يجد لنفسه مخرجاً من ورطة الصمت التي القينا به فيها, فأخذ يلتفت مرة على السائق الفلبيني ومرة علينا, او ربما كان ينتظر ركابا جددا افضل منا ينقذونه من الصمت, ولكن القدر فوت عليه هذه الفرصة, فتحرك من كرسيه الذي يقع وسط بيننا وبين السائق واقترب من السائق وقال في محاولة يبدو انها الاخيرة لانتزاع الضحكات من افواهنا, انت يا سواق البعير لا تسرع, فأحسست انه بهذه العبارة تحديداً يحاول ان يربط بين وضعه الأساسي كمنكت او عيار وبين المرحلة التالية التي قرر ان ينتقل اليها اذا لزم الأمر انتقاماً لكرامته, استمر الفلبيني في صمته وعمله, فالتفت علينا التفاتة اخيرة لعلنا نمحضه أدنى تجاوب, وقد بدت نظرته كأنها نظرة استجداء لاعطاء وجوده او كلامه اي اهمية انسانية, فشعرت في تلك اللحظة بشيء من الذنب تجاه الرجل, فالسائق الفلبيني لا يفهم كلمة مما قال ولا يمكن ان يقدم اي ردة فعل تنقذ الرجل, خصوصاً ان الرجل استخدم لهجة مغرقة في العامية, من الواضح ان هذا الرجل من الناس الذين اذا دخلوا تجمعاً مثل مراجعة جوازات او تزاحم في مطار او على مدرجات كورة يبادر بالتعليق والتنكيت, والذين لا تخلو منهم الأماكن العامة, اراد الرجل ان يقوم بهذا الدور, ولكن سوء طالعه أوقعه مع اثنين متخاصمين ليس لدى أي منهما اي استعداد لمشاركة العالم اي مرح طارىء, ولأننا سعوديون فلا يوجد ما يمكن استفزازنا به, وفي نفس الوقت لم يركب راكب آخر، فلم يجد الرجل امامه لانقاذ نفسه من ورطته الوجودية هذه سوى التشبث بالفلبيني, فعلى الأقل بينهما علاقة عمل, وقد اتضح ذلك عندما قال: (أنت يا سواق البعير لا تسرع!) كانت بمثابة تحول أكثر منها مجرد تنكيت, او انها تحتمل الاتجاهين فهو لم يطلب سوى ابتسامة تجاوب فقط او على الاقل ايماءة صغيرة تدل على اننا نعترف بوجوده في هذا العالم, الا اننا، صديقي وأنا، استأنفنا الصمت والاهمال والجمود, فهذه العبارة كما سنرى بعد قليل تنطوي على اتجاهين: الاتجاه الاصلي وهو التنكيت فاذا نفعت كان بها واذا لم تنفع فستكون جسراً وسلاحاً سيكون الفلبيني ضحية مأزقه الوجودي, وهذا ما حصل لأنه قال في جملة ثانية: (أنت يا سواق انت يا سواق لا تسرع) تلاحظ انه في هذه العبارة تخلى عن كلمة بعير الجانب الاضحاكي في الموضوع, وركز على حكاية السرعة, رغم ان الباص كان يسير بسرعة معقولة جداً, ولكن من الواضح انه قرر انقاذ نفسه عبر التضحية بالفلبيني, وكأنه يحول كل الكلام والتعليقات التي قالها الى قضية لها معنى, وهي رسالة يوحي فيها بأنه لم يكن ينكت قبل قليل فهو مهتم بالسلامة, ولكي يؤكد هذا التطور قفز من مكانه واقترب من الفتحة التي تطل على السائق وقال بلهجة آمرة: (لا تسرع هذا الباص مهوب حلال ابوك), واستكمل عبارته بعد ان التفت علينا قائلاً: (هاذولا الأجانب كسروا سيارتنا).
من الواضح هنا انه قرر الاستحواذ علينا من خلال الضرب على وتر الروح الوطنية او العنصرية اذا اردنا الدقة, لأنه قال عبارته السابقة بقوة وثقة, فالمسألة ليست تنكيتا وانما هي وطنية علينا ان نبادر بأي رد فعل, فليس من المعقول ان نهمله في هذه القضية الخطيرة, لقد حانت لحظة اثبات الوجود غصب علينا, ولكن هذا الاتجاه الجديد لم يحرك فينا ساكناً, وعندما لاحظ ان هذا المستوى من المبادرة لا نفع فيه لتحريك مشاعرنا تجاهه قفز الى الشباك واطل برأسه منه ووضع فمه على اذن الفلبيني وصرخ, انتم الأجانب ما تخافون الله باص كلف الدولة ملايين الريالات او جلد مهوب جلدك جره على الشوك, عندها شعر الفلبيني ان الرجل يهدده فالتفت عليه وقال: انت اش فيه مجنون؟.
انتابني احساس بأن الرجل شعر بقليل من الراحة, فالعالم انتبه له اخيراً, فقال بروح أقل عدوانية واقل مرارة: (اذا ما سقت شوي شوي ترى اكتب فيك تقريرا وعندي الاخوان شهود) والتفت يؤشر علينا, وكأنه يقول لنا اذا لم تحرككم النكت واذا لم تحرككم الوطنية فعلى الاقل هنا مشكلة ستجدون أنفسكم من الناحية الشرعية ملزمين بها وهي الشهادة.
وقبل ان تتطور الاحداث كان الباص قد وصل لمحطتنا التي يجب ان ننزل فيها, ودون ان نلتفت اليه نقدنا الفلبيني الأجرة وهبطنا من الباص.
وفي الدقيقة التي تركناه القيت بنظري على الباص ولم اشاهد الا مؤخرته عندها ملأ قلبي حزن شديد, لماذا حرمناه من ابتسامة صغيرة ومجانية؟.
لمراسلة الكاتب:
Yara2222*hotmail.com

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
المجتمـــــــــــــع
الفنيـــــــــــــــــة
الادارة والمجتمع
الاقتصــــــــــادية
منوعـــــــــــــات
تقــــــاريــــــــر
عزيزتـي الجزيرة
الريـــــــاضيــــة
الطبيـــــــــــــة
تغطيـــــــــــــات
مـــدارات شعبية
العـــالـــــم اليـوم
الاخيـــــــــــــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved