Sunday 7th November, 1999 G No. 9901جريدة الجزيرة الأحد 29 ,رجب 1420 العدد 9901


كلمات تهذي فيما هي تصعد التلة!
أفق
محمد الحرز

لأني دائماً أعبر سماءً غريبة، ولأن الكلمات التي أحملها في جيبي تعود كما كانت إلى هاوية اللغة، أراني أقف على حياد من الكتابة، بل إن الاقتراب من حياتها في الممرات، يبدو وكأنه اقتراب من نهر لا تعبره إلا الأموات والغرقى، نهر لا يفكر إلا في نفسه، وطالما ذهبت أنا العابر بين ضفتين إلى أشيائي حينما سكنت الهاوية، وطالما كان الجسد هو الآخر يذهب، ليس إلى أحد، ولا إلى مرآته، انما إلى آثامه، كي يفك عنها قيود الكلمات، يومها كنت وحدي، وكان الذاهب منّا لا يرجع إلا ومعه كومة من الرغبات التي تتشاجر فيما بينها، وقد يباغتني ذلك غير ما مرة، بيد أن القادم من الجهة الأخرى، وهو الخارج من انقاضه، ومن أيامه مثل أعمى، يصعد التلة ومعه أوهامي، يركلها بقدميه كلما أوقفتها الأشجار عن المسير، ولم يكن ذلك يشعرني الانكسار: انكسار المدن الهاربة من طقوس الفضاء، انكسار الذكريات على حافة الجسد، انكساري الغائب ولا أحد يدلني عليه، وأنما الأكثر ابتهاجاً هو توجسي الموثوق إلى صخرة، التوجس الذي ألصقناه كشريط على حائط المنزل، التوجس الذي عبرته السهام وهي متوجهة إلى آخر حرف في الكتابة، أكان ينبغي عليّ بعد ذلك أن أرحل، أن أضع قفلاً على المصبّ وأترك الأحلام تجفُّ ثم أمضي، أكان يمكن لشخص مثلي أن يتجرد من ثقل الجسد وليس بمقدوره حتى أن يصل إلى ماضيه عند اطراف الغابة، وذلك لأنني أصادف في نومي أناساً، يحملون يأسهم على ألواح من خشب الجنة ثم يقذفونها مثل حجر إلى أعلى ولا نزول، كانت المياه قادرة على تفكيكي قطعة قطعة ثم اعادة ترتيبي من جديد، لكنها أخطأت الطريق الى الجسد، وكانت أن مضت إلى متاهات انزلاقها في اللذة، ولم يكن قبالتها ممر آخر، تدخل منه الى حياتها الأخرى، تلك الحياة التي وُلدتُ منها عندما كانت تطلق صرخاتها باتجاه السماء بصوت خفيض ومتقطع.
إذن أعترف الآن أني لم أغادر شبيهي اطلاقاً، وكل ما قمت به هو صناعة الوهم والهذيان حتى شع بين أصابعي صوت الهارب/ المقتول الذي تتعقبه اللغة وفي يدها نَصلُ حاد، تريد أن تفتح كوة في عظامه وفي لحمه الطري، كان يضحك من الجنون على نفسه ويتساءل في الحال: كيف لم يميز بين اللغة واللعنة، بين الطعنة والهمزة، بين الوردة والدمية؟ عليّ أن أخرج من التراب كان يتساءل وعلامات الحيرة بادية على وجهه، وأنا أغادر الضوء كنتُ لا أزال مكسوراً في زاوية الرنين رغم ذلك لم أتقاعس عن المثول أمام الكلمات، أعترف أنه كان امتثالاً وخضوعاً مزيفاً، ولم أذهب بما يكفي لأقطع الطريق على الجمل الفاسدة، وأصنع منها نعشاً وأغطية بقميص البلاغة، أو أدخره لنفسي كلما طاردني رعاة ضيّعوا كيدهم في العاصفة، وسعالهم في الصرخات، أحاول في أكثر اللحظات الموبوءة بالمشاغبات ان استرجع ما تبقى من ميراثي وأساطيري وكناياتي، اردت فقط ذلك، فقط حركة أقيس بها الهوّة الفاصلة بيني وبين هؤلاء النائمين في حنجرتي، ولتكن الخيبات الصدئة رائحة تفضي إلى أحدهم وقد القى نقوشه في الماء وهي فارغة من ظنون الحجر، ومن سقوط الكلام في غربته، وعلى الأرجح هناك من يسلب الجهات من بوصلتي، ويمحو جميع شُبهاتي من سجل أحاديث الرواة والقديسين، ومع هذا، فأنا أسند قامتي بالأكاذيب، آهٍ لم أعرف هذه الكذبة من قبل، يلزمني أيها العابر سطر من كتاب قديم ألغّمه بالأخطاء، لأرى كيف يتعثر القراء كأطفال بالأوبئة المنتصبة مثل جسر في المعنى، وفي أعلى الاستعارة سألمح كذلك سرباً من الأبناء، كنت أعرفهم مرايا، يسمّون الأشياء بأسمائها، وينجبون تعابيرهم في الساحة ذاتها التي شهدت عريهم الكامل إلا من الكلام والمرض، ولولا الغياب الذي سبقني الى النبع، لكنتُ أنا المتآمر الأكبر على تعذيب الألفاظ، ولولا أقدامي المذعورة من النهايات، لكنتُ متورطاً في غواية الطيران مع الملائكة والطيور، لذلك أنا أكتب العبور، وعليّ أن أسرع، ولا شيء سوى أن أمشي، لا تدع الورق يتساقط منك، ولا الثرثرات تعترض طريقك كما لو أنها ذئاب تلدُ الخرافة، عليّ أن أسرع,, أن أعيد أسراري التائهة إلى أضرحتها الأولى,, أن أكسر عنق الإشاعات في شارع مزدحم بالمارة,, أن أضيف إلى عناويني المشردة في العالم عناوين الرغبات التي تسكن خلف أبواب اللغة.
وخلف وجهي القابع في آخر السطر، ولكي يحدث ذلك معي، أتفاوض مع المفقودين في المقاهي والأرصفة، أحياناً أشعر وقع الخطوات، وكأنها تقودني الى حتفي، وأحياناً أبحث عن حفرة، تركها الآباء في الطريق الى الجنان الخالدة، هذا الارتباك بدأ يشق طريقه الى عروقي، فهل معنى ذلك أن الحياة بدأت تعبر أيضاً إلى الضفة الأخرى!؟ كيف يمكن ذلك!؟ ليس صائد الكلمات وحده القادر على ذلك، انما القدرة هي ذاتها فعل الرغبة في القول، أزح فمك قليلاً، تجد القول يجهرّ أجنحته باستمرار للسفر صوب النصوص المغلقة على نفسها، هكذا أرى المسافات وكأنها ملطخة بآثام الشعراء والكتاب والصعاليك والحاشيين،هكذا أطلع بصري جيداً، كي أفرّق بوضوح تام بين الناسخ والمنسوخ من البشر، دون ذلك، كدتُ أسدل الستائر على منتصف الطريق، لكنها الأمطار تعلق أجراسها على النافذة، وتذهب إلى حيث ظلال مدفونة تحت جلدي، غيرأني أنا العابر بين ضفتين لم أسحب انتظاري من المنافسات لمجرد صهيل العزلة في احتفالات العابرين الى مائي القديم، ولم أكن فوق الهاوية أو تحتها حتى أهجر اثاري في الصحراء، ثمة ضباب كثيف يحجب الرؤية ويجعلها لا تتجاوز حدود اليد، فهل كان ذلك كله يسعف ذاكرتي في التذكر أو على الأقل تستطيع الارتطام على الجسر اذ تنتظى ثم تخوض في المستقبل.
أشياء كثيرة لا أدرك حكمتها، ولا أصل إلى كنهها، ليس لأني لا أرغب لكنني أنا ذلك الشخص الذي لتوه الخارج من السباق، وفي يديه مراهنات كثيرة في كل الاتجاهات، وفي فمه أنّات ليست مخبوءة إلا للكلمات التي ستأتي من كل مكان.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
المجتمـــــــــــــع
الفنيـــــــــــــــــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتـي الجزيرة
ساحة الرأي
الريـــــــاضيــــة
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved