Sunday 7th November, 1999 G No. 9901جريدة الجزيرة الأحد 29 ,رجب 1420 العدد 9901


الموسيقى التي لا تعجب أحداً
د. احمد الشويخات

(1)
أثارت مقالتي رسالة مفتوحة إلى مدير اليونسكو الجديد السيد ماتسورا التي نشرتها جريدة الجزيرة العدد (9894 يوم الاحد 31/10/1999م) اسئلة لدى بعض القراء الذين هاتفوني مستفسرين عن الحكاية، لان الأمر بدا لبعضهم وكأنني في حملة دعاية لوطني المملكة العربية السعودية، دون التفات إلى المشاكل والمتطلبات التنموية الملحة في زمن اقتصادي وثقافي صعب، وفي زمن عالمي الثقافة لم يعد ممكنا فيه الانغلاق على الذات ومنع المعلومات ومصادرة الحريات، بما في ذلك حرية المثقفين في التعبير عن آرائهم ومواقفهم, فلصاحبي المثقف هنا، ولصاحبي المثقف هناك، هذا المقال, وهل أنسى؟ لليونسكو، أيضاً.
(2)
قلت في غير موضع من المقالة المذكورة ان هناك فرقا بين التجريح والتعميم واطلاق الاحكام الجازمة على بلد وتاريخه وثقافته بأكملها من ناحية، وبين التعبير عن الرأي والموقف والنقد والنصح والمعارضة الواعية والمطالبة من اجل الخير والاصلاح من ناحية اخرى, فليس هناك فرد أومؤسسة او حزب او حكومة او شعب يمكن التصفيق والتهليل له طيلة الوقت، ويعمل بلا أخطاء ونواحي قصور, فالفرد الكامل والمؤسسة الكاملة والحكومة الكاملة والحزب الكامل والشعب الكامل لم يولد بعد في التاريخ, وأنا شخصيا لا أجيد المديح او الهجاء.
(3)
لقد عبّرتُ في المقالة المذكورة عن وجهة نظر شخصية، لان اليونسكو لم تلتفت جديا إلى مشروع الموسوعة العربية العالمية، وهو مشروع يحترمه كثير من المثقفين المنصفين، في الوطن العربي والعالم، ولان بعض المجلات الاجنبية نشرت عن سعي السعودية لشراء اليونسكو وإغراء الحكومات والافراد بالهبات والعطايا، ولان بعض المثقفين الفرانكفونيين (المنتمين للثقافة الفرنسية) اطلق بجزم وعمومية على ثقافة الناس في بلد بأكمله ثقافة منقرضة .
(4)
في السعودية - كما في اي بلد عربي او اسلامي - أناس شرفاء منفتحو الاذهان ومتنوعو الثقافات يعملون بصمت، وهناك مثقفون وشعراء وكتّاب، وسياسيون وإصلاحيون ورجال اعمال مستنيرون، ورجال اعمال غير مستنيرين يعملون في الغالب لصالحهم الشخصي فقط, وهناك خريجو جامعات كبرى في العالم، وهناك اشخاص ومؤسسات انجزوا أعمالا ممتازة لا تحتاج إلى دعاية, وهناك ايضا اناس ذوو رأي واحد متعصبون لا يزال من بينهم من يكفر بعضه بعضا، ويكفر الاخرين، مع الاسف وهناك الى جانب كل ذلك اصناف شتى من البشر الكادحين.
وليس كل هؤلاء ينتمون إلى ثقافة منقرضة سواء اتفق المرء معهم او اختلف, والبلاد العربية والاسلامية النامية محتاجة باستمرار إلى مزيد من: تطوير التعليم نوعيا وربطه بالحياة المعاصرة وسوق العمل، ومعالجة البطالة، وتحسين الادارة، وتغليب المصلحة العامة، وإلغاء المحسوبيات، وصيانة المال العام، وزيادة الخدمات الصحية، وتنويع الاقتصاد، وزيادة فاعلية الانتاج الزراعي والصناعي، والاهتمام الجدي بالشأن الثقافي ودعمه وتشجيعه، والاهتمام بقضايا البيئة، والنمو العمراني المتوازن وظيفيا وجماليا، ومحو الامية الثقافية، وتعميق الشعور بالمواطنة في العالم وليس في الرقعة الجغرافية المحدودة، والنظر الى عمل الانسان وإنتاجه وكفاءته وإعلاء قيمته وشأنه وتقييمه بناء على ادائه، وإتاحة الفرص المتكافئة للناس دون اتخاذ مواقف غير منصفة من البشر وغمطهم حقوقهم بسبب اختلافهم عن الآخرين في الدين او المذهب او الطائفة او العشيرة او الاقليم اوالعرق او الافكار او اللون، والتأسيس لثقافة التسامح وقيم الالتزام بالمصالح الوطنية الانسانية، والاهتمام بوضع الطفل والمرأة، والبحث العلمي المعمق والمبتكر، وغيرها عديد (والقائمة تطول) من الشؤون والقضايا الاجتماعية التي تنطوي على مشاكل واشكالات تنموية غير قليلة في عالم تقني واستهلاكي وتنافسي شرس، ومتداخل المصالح.
وفي الثقافة العربية الاسلامية السمحة متسع للاصلاح وعلى المرء ان يعبر عن تفاصيل كل ذلك - موثقا بالأدلة والشواهد - بكل الوضوح والغيرة والمحبة والصراحة من اجل الناس والوطن، دون اللجوء إلى الاساءات, وعلى الهيئات الدولية ان تساعد من منطلقات انسانية دون املاءات او شروط سياسية او ثقافية.
بالطبع هناك فروق عديدة في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بين البلدان في العالم العربي والاسلامي، لكن معظم مشاكله التنموية متشابهة غالبا في النوعية، وإن اختلفت في الدرجة, والحكومات مطالبة بعمل الكثير دائما، وكذلك المثقفون الرسميون وغير الرسميين، داخل السلطة وخارجها، والقطاعات الخاصة، ومعهم مؤسسات المجتمع المدني.
(5)
كل الاخفاقات العربية والاسلامية المعاصرة - على تفاوتها في المجتمعات العربية والاسلامية - لا تبرر وسم ثقافة عربية إسلامية في بلد ما أنها ثقافة منقرضة إلا إذا كان المقصود ان الثقافة العربية الاسلامية - وهي غالبا المرجعية الاوسع والاشمل لثقافة اي بلد عربي - بكل تاريخها المتنوع، الكامن منه والمشاهد، الغائب منه والحاضر، المعلوم منه والمجهول، المشرق منه والمعتم، وبكل معتقداتها السمحة وقيمها النبيلة هي - كلها - ميتة حقاً, وهذا خلاف الواقع، تاريخا ولغة ودينا ووجدانا وتطلعات, وليس من باب التغني بالماضي القول ان للعرب والمسلمين اسهامات معرفية وعلمية وإنسانية مؤثرة ايجابيا بعمق في مسيرة حضارة الأنسان، اسهامات يعرفها اليوم العلماء والمثقفون الغربيون اكثر مما يعرفها العلماء والمثقفون العرب والمسلمون.
صحيح ان هناك نحو مليار عربي ومسلم، اليوم معظمهم أميون وفقراء، ومشلولون في المعترك الثقافي والانتاجي الكوني الذي لا مجال فيه إلا للتفوق المعرفي والانتاج القوي والاحتراف المبدع والسياسات المتقنة, ومع ذلك فثقافة هؤلاء تنطوي على امكانات هائلة كامنة، وثقافتهم او ثقافاتهم المتنوعة، هنا وهناك، ليست منقرضة، لا بالمعنى الحرفي ولا بالمعنى المجازي، الا يستطيع صاحبي المثقف، هنا او هناك، ان ينظر إليهم كبشر فقط؟ بشر لهم ثقافات تختلف عن ثقافته ويعيشون مشاكل لا حصر لها.
(6)
المسيرة طويلة وشائكة ومستقبلية باستمرار، يا صاحبي, والوضع - بالتأكيد - اكثر تعقيداً مما نظن او نعرف حقا, وعلينا كمواطنين في هذا العالم ان نتعايش بتسامح، ونتعلم باستمرار، ونتمثل ما نستطيع من المعرفة، ونتعاون، ونعمل بما نستطيع من اخلاص وحب وتضحية، ونقول آراءنا بصراحة واحترام, والحكم للتاريخ.
(7)
أخيراً :
- هل ستقوم اليونسكو بتشجيع الموسوعة العربية العالمية لصالح اعداد هائلة من المدارس والجامعات والمؤسسات والمكتبات الفقيرة ماليا في بلاد عربية وإسلامية في آسيا وافريقيا؟
- الجواب عند اليونسكو؟
- هل سيكف صديقي المثقف هنا، وصديقي المثقف هناك، عن الخلط بين التعميم من ناحية، والمعارضة الهادفة البناءة من ناحية أخرى؟
- الاجابة عندهما!
- ولقد قلت رأيي، باحترام - كما أرجو.
(8)
ختاماً لهذا الكلام، الذي طال وتشعب، لن أجد أفضل من مقطع ورد في رسالة كتبها الموسيقار المجري الكبير فرانز ليست Franz Liszt (1811 - 1886م) قبيل وفاته عام 1886م، وأهديه الى صديقي المثقف هنا، وصديقي المثقف هناك:
كل واحد منهم ضدي على طريقته , الكاثوليك لانهم يرون موسيقى الكنيسة التي كتبتها منتهكة للمقدس, والبروتستانتيون يعتبرون موسيقاي كاثوليكية، والماسونيون يعتقدون ان موسيقاي كنسية اكثر من اللازم, وبالنسبة للمحافظين انا ثوري، وللمستقبليين انا يعقوبي راهب دومنيكي قديم, اما بالنسبة للايطاليين، فإنهم - إذا كانوا يؤيدون جالباردي - فيكرهونني كمنافق، وإذا كانوا إلى جانب الفاتيكان فإنهم يتهمونني بإحضار تمثال فينوس إلى الكنيسة, وعند ا(الموسيقي) بيروث Bayreuth، لستُ مؤلفاً موسيقياً، وإنما عامل علاقات عامة وترويج, الألمان يرفضون موسيقاي على اعتبار أنها فرنسية، والفرنسيون كذلك يفعلون على اعتبار انها ألمانية, بالنسبة للنمساويين، أنا أكتب موسيقى غجرية، وبالنسبة للمجريين انا أؤلف موسيقى أجنبية, واليهود يشمئزون مني، انا وموسيقاي، بدون أي سبب على الإطلاق .
(ترجمة الكاتب)
(نشر النص بمجلة New Hungarian Quarterly، خريف 1986م).
- ذلك نوع من العزاء لأي مثقف يطلق صوته وإنجازه الخاص في البرية.
- ولقد مضت دول وأقوام، ومضى معها المعارضون الشخصيون.
- وتأتي دول وأقوام، ويأتي معها معارضون شخصيون بطبيعة الحال.
- لكن موسيقى (فرانز لِيست) بقيت وستبقى، تلك الموسيقى التي لم تعجب أحداً ذات يوم.
*رئيس مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع
مدير عام مشروع الموسوعة العربية العالمية

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولـــــــــــــــى
محليــــــــــــــات
مقـــــــــــــــالات
المجتمـــــــــــــع
الفنيـــــــــــــــــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتـي الجزيرة
ساحة الرأي
الريـــــــاضيــــة
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة][موقعنا]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved