يكاد يكون من الواضح أن تفعيل دور الجامعة في المجتمع يستلزم تطويره بما يتناسب مع واقعنا المعاصر وبما يخدم القضايا والظروف التي يعيشها المجتمع وبما يجعله قادراً على التفاعل مع همومه ومشاكله واحتياجاته، ويمكن ترجمة هذا الشيء في جانب البحث العلمي عن طريق الموازنة بين دور الجامعة في تخريج عدد معين من الطلاب سنوياً وبين دورها في البحث العلمي واسهامها في هذا الجانب وألا يكون المعيار في تقييم الجامعة في أدائها لعملها وخدمتها لرسالتها بعدد الخريجين سنوياً فقط.
ومما يساعد على ابراز هذا الجانب للجامعات العمل على انشاء مراكز أبحاث واستشارات متخصصة في الأقسام العلمية يشرف عليها ويديرها الأساتذة في هذه الأقسام والذين يفترض ان تكون لديهم الصلاحيات اللازمة لادارة عملهم بعيداً عن الروتين والمركزية المثبطين إن لم يكونا قاتلين لكل عمل ابداعي، بالاضافة إلى توفير كل ما يعينهم على أداء هذه المهمة وستكون هذه المراكز متى ما اهتم بها وكانت الاعتبارات العلمية والموضوعية هي المسيرة لها دوراً لتقديم الخبرات والدراسات والاستشارات لمن يحتاجها سواء من القطاع العام أو القطاع الخاص، وستمكن الراغبين في الحصول على هذه الخدمة من الوصول إلى بغيتهم بسهولة وبأساليب منطقية بعيدة عن الاعتبارات الشخصية.
ولاشك ان تقديم الدراسات والاستشارات سيكون بمقابل مادي، المستفيد منه بالدرجة الأولى الجامعات والقائمون على مراكز الأبحاث والاستشارات، الأمر الذي يجعل عملية البحث العلمي أحد أشكال الاستثمار التي تدر دخلاً مناسباً ويوفر في نفس الوقت دافعاً ذاتياً لاستمراره، ومن الطبيعي ان تعترض بداية هذه المراكز بعض المعوقات وستكون بحاجة إلى الدعم والمساندة، ولعل من أشكال الدعم إلزام الجهات الحكومية والشركات باسناد ما تحتاجه من دراسات واستشارات الى هذه المراكز إما بشكل كامل أو جزئي وبخاصة في القطاعات والجوانب التي لها خصوصية معينة.
ولا تنحصر الفائدة من هذه المراكز في الجانب المادي فقط فالاسهام في خدمة المجتمع وحل مشاكله بواسطة كوادر مؤهلة مدركة لواقع المجتمع واكساب أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المزيد من الخبرات والقدرات أمران مطلوبان.
بالاضافة إلى أن هذه المراكز متى ما أثبتت جدواها فإنها ستعمل على جعل الجامعات مصدرة لهذه الخدمات إلى خارج البلاد وستحد من الاستيراد في هذا الجانب المهم.
لو أمكن التعامل مع البحث العلمي من هذا المنظور لوجدنا أن فوائده المادية والمعنوية ستكون متعددة الأبعاد تشمل الباحث والجامعة والجهة المهتمة بالبحث والمجتمع ككل، وسنجد مراكز أبحاث واستشارات لها اسهاماتها ومشاركاتها التي لاتقل أبداً عما تقدمه الكليات من خدمات، وانه لمن المؤسف حقاً ان تحدد الحاجة الى أعضاء هيئة التدريس في الجامعات أحيانا بناء على عدد الساعات الدراسية التي يحتاجها القسم فقط وكأن البحث العلمي لا قيمة له.
وامتداداً لدور الجامعة في المجتمع والذي يترتب عليه الاستفادة مما لديها من كوادر وتجهيزات فإنه بالامكان عقد دورات دراسية متخصصة تهيئ من يلتحق بها للقيام بأعمال معينة أو تكسبهم تأهيلاً وتدريباً هم بحاجة إليه ويعطى الدارسون شهادات علمية كالدبلوم أو ما يماثله، وليس المقصود هنا ندوات أو برامج تستمر لأيام أو أسابيع قد تكون الفائدة العلمية منها محدودة بل المقصود دورات تأهيلية ودراسية تستمر فصلاً دراسياً أو أكثر تكون الدراسة فيها منتظمة وجادة ويقوّم الدارس وبناء على أدائه وكفاءته يعطي الشهادة أولاً، ولعل لهذا الاقتراح ما يبرره، فالشهادة الجامعية لوحدها لم تعد كافية لالحاق المتخرج بالعمل بل لابد من حصوله على تأهيل خاص، كما أن من يعملون يحتاجون من وقت لآخر الى دورات تدريبية تساعدهم على تطوير أدائهم ومتابعة ما يستجد في مجال أعمالهم.
ومن الطبيعي أن تكون الجامعات بما لديها من امكانات على اختلافها انسب مكان للحصول على هذا التأهيل سواء كان مطلوباً من القطاع العام أو الخاص، ويفترض ان يكون هذا النوع من التدريب والتأهيل بمقابل مادي يدفعه الدارس نفسه أو الجهة الموظفة له، ولعل ما يلاحظ من انتشار المعاهد ومراكز التأهيل والاعداد الخاصة وزيادة الطلب على خدماتها دليل واضح على مدى حاجة المجتمع لمثل هذه الأمور، كما أن الاستمرار في ايفاد بعض العاملين إلى الخارج والحاقهم بدورات تدريبية أو تأهيلية في جامعات أو مراكز علمية لا تزيد عما هوموجود لدينا دليل آخر على ما يمكن ان تسهم به جامعاتنا المحلية.
ما ذكرته مجرد أمثلة لجوانب تستطيع الجامعات أن تسهم فيها ويكون لها دور بارز وتشكل في نفس الوقت مصادر دخل للجامعة تعينها على تطوير امكاناتها وقدراتها وتمكنها من المحافظة على كوادرها والتي ربما تجد في ظل الوضع الحالي اغراءات مادية ومعنوية في أماكن أخرى أكبر مما هو متاح في الجامعات.
* قسم الاقتصاد الإسلامي جامعة الإمام محمد بن سعود