منعطفات هموم الصحة: (5) أرجوك، لا يدري أحد! د, فهد سعود اليحيا |
منذ ثلاثة اسابيع قدمت محاضرةً في دورة دراسية, وكان موضوع المحاضرة يدور حول خصوصيات المجتمع السعودي، وخصائص المراجع { السعودي, وعندما قاربت المحاضرة من نهايتها تقدم طالب بمداخلة مؤلمة حيث قال ان السعوديين يكتمون آلامهم النفسية ويعزفون عن زيارة الطبيب او المعالج النفسي لعدم ثقتهم بقدر الحفاظ على السرية المطلوب توفره لدى اولئك الممارسين! ودار نقاش ساخن بين الحضور حول اسباب تردد السعودي في مراجعة المراكز النفسية، بيد ان احداً لم يعترض على تلك المداخلة، وكان الخلاف منصباً على ترتيب انعدام الثقة في سلم الاسباب!
وفي طريق العودة كنت افكر بهذا الموضوع، والذي يعتبر من البديهيات ومن اسس قيم {{ الممارسة الطبية/ العلاجية Medical Ethics ! وتذكرت ان قريبتي، التلميذة في المرحلة المتوسطة، سألتني: خالي، من هو فلان الفلاني؟ رددت بأنه طبيب نفسي في عيادة خاصة , قالت بأن ابنته زميلتها في المدرسة، وانها تحدثها عن اسماء مراجعي ابيها ومراجعاته! وانها تطلع على ملفات اولئك المراجعين! قلت لها لعل زميلتها تبالغ, وظننت انه خيال احداهما، ولكني ولاهمية الامر القيت على مسامع التلميذة الصغيرة، محاضرة ً عن اهمية سرية هوية و معلومات اي مراجع في ميدان الصحة بكل مجالاته، وليس الطب النفسي فحسب.
بصراحة انتابني الرعب عندما ربطت سؤال التلميذة بمداخلة الطالب، اذ تذكرت مواقف متكررة، قديمة وحديثة:
هذه قريبة لزوجتي التي تقول في نهاية المراجعة سلم لي على المدام فأقول لها اني لا استطيع حمل سلامها, فترتسم الدهشة على وجهها، وتشيع فيه مظاهر الاطمئنان، عندما اؤكد لها ان ابواب سرية مهنتي موصدة امام المدام، وغيرها.
وذاك الذي يرجوني بأدب ان لا يعلم والدي صديقه بأنه راجعني, فاجيبه بأن هذا امر محسوم ومؤكد.
وذلك الذي يلمح لي بأنني طبيب مؤتمن ولا داعي لان يذكرني بسرية المهنة، فلا يعرف فلان الصديق المشترك انه يراجعني!
و,,و,,و,, ! يا الله ياله من كم هائل من الملاحظات! وكنت اخالها ناتجة عن قلق عام من قبل مراجع بحاجة للطمأنة، فهل هي كذلك؟ ام انها انطباع مصدره خبرات حقيقية عن ذلك الذي يتحدث في مجلس متفاخراً بانه عالج فلان او علان، او تلك تحدث في مجلس ان فلانة لا تلومونها فهي من مراجعاتي؟ الله وحده اعلم!
ولكن من المؤكد ان هناك مبحثاً كبيراً اسمه القيم الطبية , ولا يعرف عنه الكثير من الاطباء وانا منهم الا النزر اليسير، وبالتالي لا يلتزمون الا بالقليل منه, ولا اذكر ان هذا المصطلح قد مر علينا ولو مرة واحدة اثناء دراستي للطب, ولكنه في الدراسات العليا في لندن كان نصب الاعين وملء الاسماع.
ولكن مهما كان مبلغ جهل الطبيب، او الممارس الصحي، بموضوع القيم الطبية فانه بالتأكيد لا يجهل احد الاسس المهمة وهو مبدأ السرية، وهذا ليس مقصوراً على مجال الصحة النفسية فقط، بل يشمل الممارسات العلاجية كلها.
فلو حدث ان فلان خرج من عيادة الطبيب الجراح فدخل بالصدفة صديقه علان وسأل الطبيب مخلصاً: سلامات يا دكتور! مم يشكو فلان؟ فان على الطبيب وجوباً ألا يصرح بأي شىء,, ليس هذا فحسب, بل يحاول ان يوهم علان بأن فلاناً كان عنده في موضوع غير طبي!!
بل ان على الطبيب، اي طبيب، عندما يقابل احد مرضاه صدفة، ان يبدو وكأنه لم يقابله من قبل, واذا كان الموقف يسمح، عليه ألا يبادره بالسلام، ويترك الامر لخيار المريض, فالمعلومات حول صحة الشخص اكثر اهمية ومدعاة للحفاظ على سريتها من الحسابات البنكية, وطالما انك صاحب الشأن، فقد تصرح لمن ترغب بأن رصيدك كذا وكذا، فمن حقك وحدك ايضاً ان تخبر من تريد انك تعاني من الربو او القولون العصبي, ولكن لا البنك، ولا الطبيب، يملك الحق في تأكيد المعلومة او نفيها، للطرف الثالث الصديق او القريب اللهم الا في ظروف قانونية معينة.
وبعد آخر يضاف الى المسألة، وهو ان الحفاظ على سرية معلومات المريض، او المراجع، ليست قاصرة على الطبيب او المعالج فقط ولكنه وبنفس القدر والحزم واجب على كل من يتعامل مع هذه المعلومات سواءً كان الصيدلي، او مسجل المواعيد، او الممرض، او فني الاشعة، او السكرتير الذي يطبع التقارير، بل وحتى الساعي والفراش.
يقولون ان التأكيد على البديهة تشكيك فيها، ولكن للاسف، يبدو لي ان هذا الامر، عموماً، هو البديهة الغائبة, ولذا يجب التأكيد عليه دوماً.
{ افضل دائماً استخدام كلمة مراجع عوضاً عن مريض في مجال الصحة النفسية لعدة اسباب اهمها ان كثيرين ممن يحتاجون خدمات الصحة النفسية قد لا يعانون من اضطراب نفسي موصوف ومقنن ضمن دلائل تصنيف التشخيصات, بل ان مدارس العلاج النفسي الدينامي تؤكد ان كل شخص سيستفيد من الجلسات النفسية الدينامية لانها تعرفه على ذاته من الداخل.
{{ الشائع ان هذا المصطلح الاجنبي يترجم بالاخلاقيات الطبية ولكني افضل هذه الترجمة.
|
|
|