Friday 10th December, 1999 G No. 9934جريدة الجزيرة الجمعة 2 ,رمضان 1420 العدد 9934


وقفة مع حديث الصيام
د, سليمان بن عبدالله أبا الخيل*

نعيش في هذه الايام شهرا عظيما مباركا، ألا وهو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وقد كتب الله سبحانه علينا صيامه، فقال في كتابه (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة: 183 .
والصيام له منزلة خاصة عند الله سبحانه وتعالى، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابي هريرة رضي الله عنه انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر امثالها الى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: الا الصوم فانه لي، وانا اجزي به، يدع شهوته وطعامه من اجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصوم جنة، واذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فان سابه احد او قاتله، فليقل: اني امرؤ صائم
يقول العلامة ابن سعدي رحمه الله: وهذا حديث عظيم، فانه ذكر فيه الاعمال عموما، ثم الصيام خصوصا، وذكر فضله وخواصه، وثوابه العاجل والآجل، وبيان حكمته، والمقصود منه وما ينبغي فيه من الآداب الفاضلة.
فبين هذا الاصل الجامع ان جميع الاعمال الصالحة من اقوال وافعال، ظاهرة او باطنة، سواء تعلقت بحق الله تعالى، او بحقوق العباد، مضاعفة من عشر الى سبعمائة ضعف، الى اضعاف كثيرة.
وهذا مما يدل دلالة قاطعة على سعة فضل الله، واحسانه على عباده المؤمنين، اذ جعل جناياتهم ومخالفتهم الواحدة بجزاء واحد، ومغفرة الله تعالى فوق ذلك.
واما الحسنة: فأقل التضعيف ان الواحدة بعشر، وقد تزيد على ذلك باسباب:
منها: قوة ايمان العامل، وكمال اخلاصه، فكلما قوي الايمان والاخلاص تضاعف ثواب العمل.
ومنها: ان يكون للعمل موقع كبير، كالنفقة في الجهاد والعلم، والمشاريع الدينية العامة، وكالعمل الذي قوي بحسنه وقوته ودفعه المعارضات وغيرها من الاعمال.
وكالمضاعفة لفضل الزمان او المكان، او العامل عند الله، فهذه المضاعفات كلها شاملة لكل عمل.
واستثني في هذا الحديث الصيام، واضافة اليه، وانه الذي يجزي به بمحض فضله وكرمه، من غير مقابلة للعمل بالتضعيف المذكور الذي تشترك فيه الاعمال، وهذا شيء لايمكن التعبير عنه، بل يجازيهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وفي الحديث التنبيه على حكمة هذا التخصيص وان الصائم لما ترك محبوبات النفس التي طبعت على محبتها، وتقديمها على غيرها، وانها من الامور الضرورية، فقدم الصائم عليها محبة ربه، فتركها لله في حالة لا يطلع عليها الا الله، وصارت محبته لله مقدمة وقاهرة لكل محبة نفسية، وطلب رضاه وثوابه مقدما على تحصيل الاغراض النفسية، فلهذا اختصه الله لنفسه، وجعل ثواب الصائم عنده، فما ظنك باجر وجزاء تكفل به الرحمن الرحيم الكريم المنان، الذي عمت مواهبه جميع الموجودات وخص اولياءه منها بالحظ الاوفر، والنصيب الأكمل، وقدر لهم من الاسباب والالطاف التي ينالون بها ما عنده على امور لاتخطر له بالبال ولا تدور في الخيال، فما ظنك ان يفعل الله بهؤلاء الصائمين المخلصين؟ وهنا يعجز اللسان، ويقف القلم، ويسبح قلب الصائم فرحا وطربا بعمل اختصه الله لنفسه، وجعل جزاءه من فضله المحض، واحسانه الصرف، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ودل الحديث على أن الصيام الكامل هو الذي يدع العبد فيه شيئين: المفطرات الحسية، من طعام وشراب ونكاح وتوابعها والمنقصات العملية، فلا يرفث ولا يصخب، ولا يعمل عملا محرما، ولا يتكلم بكلام محرم، بل يجتنب جميع المعاصي، وجميع المخصمات والمنازعات المحدثة للشحناء، ولهذا قال: فلا يرفث أي: لا يتكلم بكلام قبيح، ولا يصخب بالكلام المحدث للفتن والمخاصمات، كما قال في الحديث الاخر: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في ان يدع طعامه وشرابه .
فمن حقق الامرين: ترك المفطرات، وترك المنهيات، تم له اجر الصائمين، ومن لم يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ثم ارشد الصائم اذا عرض له احد يريد مخاصمته ومشاتمته ان يقول له بلسانه: إني امرؤ صائم .
وفائدة ذلك: ان يريد كأنه يقول: اعلم انه ليس بي عجز عن مقابلتك على ما تقول، ولكني صائم احترم صيامي وارعى كماله، وامر الله ورسوله، واعلم ان الصيام يدعوني الى ترك المقابلة، ويحثني على الصبر، فما عملته انا خير واعلى مما عملته معي ايها المخاصم.
وفيه: العناية بالاعمال كلها من صيام وغيره، ومراعاة تكميلها، والبعد عن جميع المنقصات لها، وتذكر مقتضيات العمل، وما يوجبه على العامل وقت حصول الاسباب الجارحة للعمل.
وقوله: الصيام جنة اي: وقاية يتقي بها العبد الذنوب في الدنيا، ويتمرن به على الخير، ووقاية من العذاب.
فهذا من اعظم حكم الشارع من فوائد الصيام، وذلك لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فكون الصوم جنة، وسبباً لحصول التقوى: هو مجموع الحكم التي فصلت في حكمة الصيام وفوائده، فانه يمنع من المحرمات او يخففها، ويحث على كثير من الطاعات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه , هذان ثوابان: عاجل، وآجل.
فالعاجل: اذا افطر الصائم فرح بنعمة الله عليه بتكميل الصيام، وفرح بنيل شهواته التي منع منها في النهار.
والآجل: فرحة عند لقاء ربه برضوانه وكرامته، وهذا الفرح المعجل نموذج ذلك الفرح المؤجل وان الله سيجمعهما للصائم.
وفيه: الاشارة الى ان الصائم اذا قارب فطره، وحصلت له هذه الفرحة، فانها ما مر عليه في نهاره من مشقة ترك الشهوات، فهي من باب التنشيط، وانهاض الهمم على الخير.
وقوله: ولخلوف فم الصائم أطيب عندالله من ريح المسك .
الخلوف: هو الاثر الذي يكون في الفم من رائحة الجوف عند خلوه من الطعام وتصاعد الابخرة، فهو وان كان كريها للنفوس، فلا تحزن ايها الصائم، فانه اطيب عند الله من ريح المسك، فانه متأثر عن عبادته والتقرب اليه، وكل ما تأثر عن العبادات من المشقات والكريهات فهو محبوب لله، ومحبوب عند المؤمن مقدم على كل شيء.
نسأل الله العلي القدير ان يجعلنا ممن يصوم رمضان ايمانا واحتسابا، وان يغفر لنا ذنوبنا ويتوب علينا، وان يوفقنا للعمل الصالح والعمل النافع، وان يرزقنا الاخلاص في العلم والعمل، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه اجمعين.
*وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

الاقتصادية

أفاق اسلامية

محاضرة

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved