قد يكون اكثر المؤرخين فشلا هو من يعتمد على (الذاكرة) في استقصاء الاحداث ورصدها، فهو ما لم يكن مدعما بوسائل موضوعية للقياس والرصد فان الذاكرة حتما ستخذله.
لانها بالتأكيد تملك خصائص انتخابية في استرجاعها للمعلومة او الحدث او المقولة وسيتدخل في هذا حتما موقفنا من الحدث، وحالتنا المزاجية ومدى اخلاصنا للحظة او رغبتنا في نقلها واسترجاعها.
لذا على الغالب ما تكون السير الذاتية مضخمة (بالأنا) وسطوتها على موضوعية الحدث والرؤيا هذا لان السيرة الذاتية هي نتاج ذاكرة شخصية تمر على الاحداث ذلك المرور الطللي المضمخ بالشجن والاحساس العارم بالفقد.
وحينما تلتئم عائلة في صورة تذكارية يحيط بها إطار، تصبح وكأنها تريد ان تطمئن الى ديمومة اللحظة والى ان تلك اللحظات ستظل بمنأى عن لصوص الزمن اولئك الذين يختلسون النضارة والبراءة والطمأنينة.
لكن السؤال هنا لم تظل ذاكرتنا انتخابية وتحمل في طياتها تلك اللهفة والشجن باتجاه منعطفات الماضي ولحظاته التي تتوارى في اركان مظلمة اصبحت تدعى بالتاريخ!؟ ولما اوقف امرؤ القيس صاحبيه وبكى واستبكي:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل |
ولماذا يحمل الماضي ذلك التمام والكمال في عقلنا الجمعي؟ ولماذا لا نحمل للحاضر الكثير من الود الذي يؤهلنا كي نعيشه بكمال ساعاته وتفاصيله؟
ولم هذا التخلي عن الواقع اليومي المزدان بالكثير من الاحداث والمهام والتفاصيل التي تحتاج حرصنا ودأبنا واهتمامنا ومن ثم نستجير عن هذا كله بكتب الذكريات؟
هل هذه مكيدة الذاكرة؟ تلك المكيدة التي تنصب شباكها فوق وعينا واحساسنا وتجعل من الماضي كمالاً لا يدانيه نقص، وتضرم احلامنا السرية شوقا اليه؟
وهل الجميع قد وقع ضحية هذه المكيدة تلك التي تجعل مدن الماضي افضل من مدن الحاضر، وجيران الماضي اكثر وفاء، ونساء الماضي أشد جمالا، ورجال الماضي اكثر نبلاً وشجاعة، وسيارات الماضي أكثر قدرة على التحمل، وأثاث الماضي أكثر متانة وأغاني الماضي أكثر رصانة,, وهكذا الى ما لا نهاية,, هل هي مكيدة الذاكرة فقط؟؟