* ابتداءً من هذا الشهر المبارك، تبدأ بلادنا تنفيذ ما اهملته وتهاونت فيه منذ زمن طويل، من ربط حزام الامان لسائقي وركاب السيارات والعربات، ومع أن هذا التوجه يأتي متأخراً، لكني اذكر أن اكثر من محاولة سبق وأن اجريت، فلم يلتزم بها احد، وهذا دأبنا في كيفية التعامل مع كثير من التنظيمات والتعليمات التي يصدر بشأنها لوائح وقرارات، نتفاعل معها وقت الصدور، ونتحمس لها في أيامها الأولى، ثم ما يلبث تفاعلنا أن يخبو، وحماسنا أن يفتر، فننسى كل شيء، ونعود إلى نقطة الصفر!
* هذه ليست حالة خاصة بنا في المملكة أو في دول الخليج، بل لقد وجدت أن هذا هو حال عموم العرب بوجه عام، بل إن حال الناس في التعامل مع تطبيق ربط الحزام في بعض البلدان العربية التي تصر على ذلك، وتتولى الجهات البوليسية المتابعة والرقابة والعقوبة، هو أسوأ من حيث لجوئهم إلى التحايل والتظاهر بالتطبيق، حتى إذا ابتعدوا عن عيون البوليس، حلوا الأحزمة، وتنفسوا الصعداء، وأرسلوا الزفرات والتأففات، متبوعة بعبارات الشتم والسباب لهؤلاء الرجال الموكل بهم مسئولية المتابعة والتطبيق,,!
* إنه في الوقت الذي كان ينبغي من الكل جعل التقيد بالتعليمات، والتجاوب مع الأنظمة جزءاً من حياتهم ومن سلوكهم اليومي العام، بل سمة من العادات اليومية التي اعتادوها، وهي في معظمها ليست نافعة على كل حال، فإن الذي يجري هو العكس تماما، بحيث جرت العادة أن لا تبني لك عادة حسنة، وتصر على التمسك بعادات ضارة فقط لأنها مكتسبة أو موروثة,, يقول الشاعر رشيد سليم الخوري:
فلم أر كالعادات شيئاً بناؤه يسير وأما هدمه فعسير |
* أما الأسوأ من ذلك، أن تكون العادة الأسوأ بالطبع جزءاً من التكوين الاجتماعي، الذي يتناقله الأبناء عن الآباء وكأنه كتاب منزل,, لقد صور العرب هذا التكوين في حياتهم العامة فقالوا: من شب على شيء شاب عليه وبالطبع يغلب التطبع وعادات السادات، سادات العادات، والأخير ينبه إلى القدوة الذي يؤخذ عنه في الغالب,, ثم قالوا شعراً:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه |
* وهذا المعنى التقطه المؤمل الكوفي في قوله:
ينشأ الصغير على ما كان عوده والداه إن العروق عليها ينبت الشجر |
* على أن الحزام ليس جديداً على الثقافة العربية، فقد عرف العرب الحزام والحبل والسبتة، ودخل الربط والضبط في حياتهم منذ مئات السنين، ولكن ليس من السيارات والطائرات، وما يشترط في امتطائها اليوم ربط الأحزمة قبل التحرك والإقلاع، ولكن من خلال ما أتيح لهم من وسائل في كل مناحي حياتهم، وكان الحزام ملازماً لظهور الخيل والإبل، قال المتنبي:
أو ركبوا الخيل غير مسرجة فإن أفخاذهم لها حُزُم |
* إن الحزم في اللغة يعني ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة ويعني الاحتراز والتعقل والحذر والتوقي، فالرجل الحازم والحزيم هو العاقل المميز ذو الحنكة، وفي الحديث النبوي: الحزم سوء الظن، الحزم ضبط الرجل أمره، والحذر من فواته, وفي الحديث الوتر أنه قال لأبي بكر: أخذت بالحزم, وفي الحديث: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الحازم من إحداكن, أي أذهب لعقل الرجل المحترز في الأمور، المستظهر فيها, وفي الحديث أيضاً أنه سئل: ما الحزم؟ فقال: الحزم أن تستشير أهل الرأي وتطيعهم.
* وأهل الرأي قالوا كلمتهم في شأن حزام الأمان في السيارات، فصدرت التوجيهات والتعليمات الملزمة بالطاعة، فهل نطيع، ونسند ربط الحزام بأخذ العزم:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا |
* ولنتذكر في هذا الخصوص ونحن نقدم على تجربة أتمنى أن تنجح ما وصلت إلية الشعوب ومنها بالطبع الشعب العربي من نضج، أفرز لنا درر الحكمة في الحزم والعزم:
* أحزم الناس، من إذا وضح له الأمر صدع فيه.
* العزيمة في الأمر، هي إصداره إذا ورد بالحزم.
* الحزم هو التفكير في العواقب.
* من لم يقدمه حزمه، أخره عجزه.
* قال الأزهري: أخذ الحزم في الأمور، هو الأخذ بالثقة، من الحزم وهو الشد بالحزام والحبل استيثاقاً من المحزوم, قال ابن بري: وفي المثل: قد أحزم لو أعزم, أي قد أعرف الحزم ولا أمضي عليه.
* واحتزم الرجل وتحزم، بمعنى، وذلك إذا شد وسطه بحبل, وفي الحديث: نهى أن يصلي الرجل بغير حزام, أي من غير أن يشد ثوبه عليه, وإنما أمر بذلك، لأنهم قلما يتسرولون, ومن لم يكن عليه سراويل، أو كان عليه إزار، أو كان جيبه واسعاً، ولم يتلبب، أو لم يشد وسطه، فربما انكشفت عورته، وبطلت صلاته, وفي الحديث: نهى أن يصلي الرجل حتى يحتزم, أي يتلبب ويشد وسطه, وفي حديث آخر: أنه أمر بالتحزم في الصلاة، وفي حديث الصوم: فتحزم المفطرون، أي تلببوا وشدوا أوساطهم وعملوا للصائمين.
* والمقصد من كل ما نتكلم عليه في أمر الحزم والحزام أنه فعل مألوف في حياة العرب والمسلمين، وأنه مأموربه في الصلاة والصيام والترحال، وفي مناحي كثيرة من الحياة، وأنه حتى لو لم يقصد به الأمان من خطر الركوب والسير في السيارات، إلا أنه في حالتها أوجب وأمكن، لأن الخطر أظهر، ولأنه ليس فعلاً غريباً ولا منكراً، فلماذا نقابله بالتكاسل والتهاون وعقم الفهم، وسوء التقدير؟
* وفي الثقافة العربية وأدبياتها، مفردات لا تحصى في باب الحزم والتحزم والحزام وما له صلة بفعل كان سائداً بين العرب والمسلمين، فالحزام للسرج والرحل والدابة والصبي في مهده, قلت: ولو كان للخيل والجمال والدواب في أيامها ما كان للسيارات اليوم، من سرعة وخطورة متمثلة في الحوادث ما ينتج عنها دهس وقتل وحرق وإعاقات ومآسي مؤلمة، لما تردد العرب في ربط من يركبها من الرجال والنساء والصبيان بأحزمة مثل ما كانوا يفعلون بصبيانهم في المهد!
* إن الفرس النبيل عند العرب هو المحزم, ومن قولهم: جاوز الحزام الطبيين، وحزم الفرس: شد حزامه, قال لبيد:
حتى تحيرت الدبار كانها زَلَفٌ، وألقي قتبها المحزوم |
* أما الحزيم، فهو موضع الحزام من الصدر والظهر كله ما استدار، يقال: قد شمر وشد حزيمه, وأنشد:
شيخ، إذا حُمِّل مكروهة، شد الحيازم لها والحزيما |
* وفي حديث علي رضي الله عنه:
اشدد حيازيمك للموت، فإن الموت لاقيكا |
فالحيازم جمع حيزوم، وهو الصدر، وقيل وسطه، وهذا كناية عن التشمر للأمر والاستعداد له, فلنشدد حيازيمنا اليوم برط حزام الأمان، ولنشمر بالصدوع للتعليمات الواجبة التنفيذ في هذا الخصوص.
* ومن مخرجات حَزَم في اللغة: الحزيم هو الصدر، والجمع حُزُم وأحزمة, عن كراع قال ابن سيدة: الحزيم والحيزوم وسط الصدر، وما يضم عليه الحزام حيث تلتقي رؤوس الجوانح فوق الرهابة بحبال الكاهل، قال الجوهري: والحزيم مثله، يقال شددت لهذا الأمر حزيمي, واستحسن الأزهري التفريق, وقال: لم أر لغير الليث هذه الفرق, قال ابن سيدة: الحيزوم أيضاً الصدر, وقيل الوسط، وقيل الحيازم ضلوع الفؤاد, وقيل الحيزوم ما استدار بالظهر والبطن, وقيل الحيزوم ما اكتنف الحلقوم.
* إن الحزم بمعنى الربط والتوثيق ظاهر في الثقافة العربية والإسلامية,, ففي الحديث النبوي:
* ,, وقد حزم على بطنه بثوبه.
* ,, وشددت بطني فحزمته بخوص النخل.
* ,, أن آمر فتياني فيحزموا حطباً.
* ,, فتحزم المفطرون وعملوا.
* ,, لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب.
* ,, نهى,, أن يصلي الرجل حتى يحتزم.
* ,, وأن يصلي الرجل بغير حزام.
* ,, وأن حُزم خيلهم لليف.
* ثم يأتي الحزم بمعنى الجد والعزم، وما أحوجنا اليوم لمثل هذا,, بل إن العزم أمان للحزم من التراخي والتراجع، والعزم شروع في الحزم، فكأن الحزم نية تسبق، والعزم أخذ بناصيتها إلى المراد منها، ففي الحديث النبوي:
* ,, ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم.
* ,, الذي لا ينام حتى يوتر حازم.
* ,, فقال,, أخذ هذا بالحزم.
* وأما التلازم بين الحزم والعزم ضرورة يوجبها القصد الذي ينمو ويتحقق في غرس الثاني وحراسة الأول, قال ابن خفاجة:
متقلب ما بين عزم غارس للمكرمات، وبين حزم حارس |
وقال صفي الدين الحلي:
شمت في إصلاحهم غضب عزم زاده حزم الأمور صقالاَ |
وقال عنترة بن شداد:
فضائل عزم لا تباع لضارع وأسرار حزم لا تذاع لعائب |
* ولكن تنعدم الفائدة عندما نفقد توهج العزيمة وسندها المؤمل في حزم أمر.
قال الشريف الرضي:
إذا قل عزم المرء قل انتصاره وأقلع عنه الضيم دامي المخالب |
* ومن أجل نجاح ما نحن مقدمون عليه من التحزم داخل عرباتنا وسياراتنا، لابد أن نمضي في الأمر إلى النهاية، طلباً للغاية، وأن يكون العزم مصحوباً بالحسم في دقائق التنفيذ، فلا ندع ثغرة لمتكاسل أو متهاون أو مستهتر، وأن ندرك بادئ الأمر، بأن حزام الأمان في السيارة هو جزء رئيس في تركيبها، وأنه لم يوضع للزينة أو الفرجة أو العبث، وعلينا أن نتعامل مع هذا الحزام مثل تعاملنا مع بقية مكونات السيارة الأخرى من دركسون وكوابح ومنبه وغير ذلك, والمهم في الأمر، أن نسعى إلى ترسيخ هذا الفعل في الحياة اليومية حتى يصبح عادة عند كافة السائقين والراكبين، لا تتحرك السيارة بدونه، مثل قفل الأبواب قبل الحركة، وأن نصبغ المواد الإعلانية والإعلامية التي تبث وتنشر بمظهر الالتزام الحقيقي بربط الحزام، وأن لا نتهاون ونحن نطبق ونتابع التنفيذ في الشارع العام,, الآن,, اربطوا الأحزمة أيها القراء الكرام، فقد حان وقت الحركة إلى محطة أخرى لكتابة مقال آخر,,!.